يبدو أن مواعيد الفصول قد تغيرت.. تزهر الأشجار فى الربيع، هذا ما تعودناه.. ويغنى فريد الأطرش، هذا ما تعودناه.. أما أن تمطر فى الوقت الذى يبحث فيه المصريون عن الأسماك المملحة فى محلات الفسخانية فهذا هو الغريب بعينه.
بينما أراقب أحوال الطقس.. والأرصاد تؤكد وجود أمطار ثلجية فى بعض عواصم الشمال.. كان سعر الذهب يرتفع إلى حد موجع – خمسة آلاف جنيه تقريبا للجرام الواحد من العيار واحد وعشرين.. عشرات يموتون فى غزة تحت قصف لا نعرف متى سيتوقف.. دبلوماسيون من إيران وأمريكا على موعد مع وسيط عمانى، واحتمالات بدء مفاوضات حول مشروع طهران النووى.
أهرب من أخبار السياسة كثيرا لأخبار الطقس.. لكننى لا أفهم كيف تأتى الأمطار الثلجية الآن.. وقد قاربت علب كعك العيد الأصغر على الانتهاء.. فيما وجب أن أبحث عن محل فسخانى للبحث عن “الرنجة والملوحة” استعدادا لطقس فرعونى يحبه المصريون اسمه “عيدالربيع”.. كيف؟!
لا إجابات قاطعة فى هذا الزمن.. ولا أعرف متى يمكننى أن أتحرر من ملابس الشتاء لأستمع إلى الموسيقى التى أحب.. موسيقى الربيع!
إذن.. فلنكمل مع موسيقى رمضان.. الذى غادر بالفعل.. لكن توابع موسيقاه لا تزال باقية.
أول الأصوات التى توقفت عندها أثناء عرض المسلسلات الرمضانية، والتى نجحت بشدة فى أن تظل تطاردنى حتى ما بعد العيد.. صوت حساس.. جرىء.. هادئ. فى الوقت ذاته يقدم كلمات وموسيقى مختلفة تجمع ما بين الشرق والغرب.. بإحساس مصرى خالص.. مطربة اسمها سمر طارق.
سمر ليست مطربة فقط.. هى تكتب أغنياتها أيضا وتلحنها.. شابة فى العشرينات فيما أظن هى.. من اكتشافات برنامج “الدوم”.. شاركت هذا العام بثمانى أغنيات دفعة واحدة ضمن أحداث مسلسلس “الشرنقة”.. سبق لسمر أن غنت فى مسلسلات “كامل العدد” و”سفاح الجيزة”، وعلى مسرح القلعة وفى ساقية الصاوى.
إحدى أغنيات سمر طارق اسمها “2002”.. اسم الأغنية غريب.. هو فيما يبدو تاريخ ميلاد المطربة نفسها.. لكن جمهور متابعى الأغنية التى تحظى بمشاهدات عالية على موقع يوتيوب منحها اسما آخر.. “الأسمر كحيل العين”.
تسللت هذه الأغنية التى صدرت منذ أكثر من عام إلى جمهور الموسيقى مجددا بعد نجاح سمر فى خطف أسماعهم بأغانى المسلسل الرمضانى.. لكنهم تجاوزوها للبحث عن المطربة ذاتها.. وأغنياتها.. ومنحوا هذه الأغنية شارة بدء جديدة.. وحضورا جديدا دفعنى للاستماع إليها.. والبحث عن سرها.
“تيجى نستخبى
م الدوشة يا ليل
أنسى حبه
إنى كنت باميل”..
هى حالة هروب إذن من “عشق خاص”.. المطربة الأنثى الكاتبة المغنية تبحث عن مهرب من هذه الدوشة.. التى صنعها “الفراق”.. أو هى مصنوعة لذاتها..
“عارفة إنى ماباداريش
وإنى واضحة زى دليل
فى السما
بيشاور على الشباك
ويقول للجميل.. يا جميل”..
هى إذن تعرف أنها مهما حاولت الهروب لا تستطيع المداراة، وأنها “مكشوفة”.. واضحة.. بتقول للجميل يا جميل فى عينه.
كتابة مختلفة قطعا عن الأغنيات التقليدية.. وحتى تلك التى تزعم الاختلاف.. هى كتابة متحررة من أية قوالب سابقة التجهيز.. وهكذا الموسيقى التى تعبر عنها.. وصوت سمر الذى استعملته كما تستعمل الآلات التى تعزف الميلودى.
لا مجال هنا لتطريب.. أو عُرب.. أو زخرفة موسيقية معتادة.. أنت أمام صوت يشبه الهمس.. وشجى فى آن واحد.. يغنى غناء سليما وعذبا..
“قالى الوليف الأسمر كحيل العين
محظوظ أنا بيكى
ما اعرفش أنا من وين
سرحان باناديكى”..
ما قاله الوليف قديم.. يعود إلى 2002.. (هذا هو سر التاريخ).. ربما..
“خليتنى أرجع أيام 2002”
كيف.. وهى طفلة.. ربما هى تربط مولدها بذلك الأسمر كحيل العين.. الذى تهرب من ذكراه.. ومن كلماته..
“بابعتلك الأيام
وباغير العنوان
على بيتى وباشيلهم
وباغنى أغنية.. ما اعرفش دى ليا
إذا كان باغنيلك ولا باغنيلهم”..
تبدو الكلمات غير حاسمة.. وغير مفهومة.. وكذلك النهاية.. ربما نحاول البحث عنها فى سطور لم تكتبها..
ولكن.. ذلك البتر الذى شعرت به فى المعنى هو أمر يطارد معظم الأغنيات التى تكتبها سمر.. وهو أمر بالنسبة لى يبدو جليا.. هى ليست شاعرة محترفة.. وليست ملحنة محترفة أيضا.. وتحتاج إلى ضبط “معانى” أغنياتها وإعادة بنائها.. لكنها قطعا أحد أهم مكاسب هذا الموسم الطائش ما بين العيدين..
مصطفى رزق.. استعادة عالم باب اللوق
صديقى مصطفى رزق.. مهندس معمارى موهوب.. صاحب فكرة فى أعماله الهندسية.. وهو أيضا موسيقى جنوبى مميز.. صاحب تجربة خاصة جدا فى مزج فلكلور مصر الجنوبى بموسيقى “البلوز”.
تجربة مصطفى رزق تعود بداياتها إلى مطلع تسعينيات القرن الماضى.. لحن كثيرا ولم تأته فرصة النفاذ عبر أصوات مطربين آخرين.. شارك فى تجارب مسرحية مهمة.. ولحن من كلمات مصطفى الجارحى وآخرين تجارب مهمة ظلت حبيسة “وسط البلد”.. لا تصل إلى الجمهور العام.. ورغم مشاركته بالغناء فى بعض التجارب السينمائية والتليفزيونية.. فقد ظلت تجربته محصورة حتى حاول كسر الحصار بإصدار ألبومه “باب اللوق” منذ سنوات..
وقام بتصوير بعض أغنياته وطرحها على مواقع التواصل الاجتماعى.. وحقق بعضها وجودا طيبا.. فى ظل سيطرة موسيقى المهرجانات وغيرها من أشكال الدوشة..
الآن.. وفى مطلع الربيع.. يستعيد مصطفى رزق رونقه لسبب غريب.. هو أن أحد مسلسلات رمضان، وبطله محمود حميدة، استعان بموسيقى وأغنيات واسم مصطفى رزق.. فراح الجمهور يفتش عن تلك الأغنيات التى يحبها “حميدة” البطل فى “ولاد الشمس” ومن بينها “ماشية الطريق”.. التى صدرت لأول مرة منذ عشر سنوات كاملة..
“يا اللى ماشية ع الطريق
شد بحرك كام غريق
نفسى أقول إنى بحبك
بس قلبى مش جرىء”..
عموما.. لا أحتاج إلى موسم لسماع مصطفى رزق.. لكننى سعيد بأن جمهورا جديدا يفعل ذلك الآن مع “شفطة بن”، و”مجنون بجد” و”البنت السمرا”..
رحيم.. ضد النسيان
لا يزال آلاف من مبحى موسيقى محمد رحيم يشعرون بالوجع.. ويتصبرون بأن ألحانه باقية.. وينتظرون أغنياته الجديدة التى أعلنت زوجته إصدارها عما قريب..
أولى هذه الأغنيات صدرت فى ثانى أيام العيد.. وهى عبارة عن “ديو” مع صاحبة الصوت الرائق نهال نبيل.. ومن كلمات وألحان وتوزيع رحيم..
الأغنية التى تحمل اسم “حبيبى” تكشف عن شاعرية فذة كان يملكها رحيم، وقدرة على الكتابة تفوق المحترفين من صناع الأغانى.
وفى هذا اللحن، يمارس رحيم نزقه الخاص، باختيار مساحة دافئة فى صوته وصوت نهال.. يكشف ببساطة لماذا هو اختص نفسه بهذا اللحن..
“زى ما جانا هوانا
نادانا.. وصالحتنا الأيام”..
نقلات غريبة.. وتقطيعات متجاوزة وعالمية يبتكرها رحيم فى لحنه الجديد.. ويسمح له بذلك صوت نهال الحاد والناعم فى آن واحد.. حوار موسيقى مدهش بين الصوتين والآلات.. والإيقاع المتوتر..
“وتعالى هاتى الليالى
ده الليالى مكتوبالى معاكى”..
لا يزال رحيم يملك القدرة على إدهاشنا، ويبدو أننا على موعد مع الكثير فى الأيام المقبلة..
وحتى يحدث ذلك.. يبقى على الحجار وحده قادرا على استعادة الربيع، وهو يحتفل بعيد ميلاده الواحدالحادى والسبعين.. حيث أعاد توزيع أغنيات فريد الأطرش عبر موسيقى أحمد على الحجار وشادى مؤنس وأحمد صالح مادو.. وأحمد شحتوت.
قدم الحجار على مسرح الأوبرا العريق عشرين لحنا من نوادر فريد الأطرش وفى مقدمتها “وادى الربيع عاد من تانى”.. بمشاركة صوتين رائعين هما أميرة أحمد وياسمين على التى أجادت بشكل مبهر أداء “ليالى الأنس فى فيينا” ودويتو “أحبك يانى” رائعة صباح الشهيرة مع الحجار نفسه.
لم تعد هناك حفلات للربيع كما كمان فى السابق.. ربما لاختلاط الفصول.. لكن الموسيقى ستظل.. وسنظل نبحث عنها.