شاهدة أزلية.. تجديد “شجرة مريم” بالمطرية ينشط السياحة الدينية ويعمق رسائل السلام واللجوء من رحلة العائلة المقدسة

في قلب حي المطرية الشعبي بشرق القاهرة، تقف “شجرة مريم” شامخة، شاهدةً على محطة فارقة في رحلة العائلة المقدسة التاريخية. تُعتبر هذه الشجرة رمزًا للجوء والأمل، ومزارًا يجمع المسيحيين والمسلمين، مسلطة الضوء على قيمة الهجرة الإنسانية والتعايش الديني الفريد في مصر.

محطة على درب النجاة

تُعد شجرة مريم إحدى أبرز المحطات ضمن مسار العائلة المقدسة في مصر، الذي يضم أكثر من 25 موقعًا يمتد من سيناء حتى صعيد مصر. تشير التقاليد القبطية إلى أن العذراء مريم والطفل يسوع والقديس يوسف النجار استظلوا بهذه الشجرة أثناء هروبهم من بطش الملك هيرودس، في واحدة من أقدم صور اللجوء القسري المسجلة تاريخيًا. يقال إن العذراء جلست تحت ظلها للراحة وشربت من بئر قريب لا يزال قائمًا حتى اليوم.

شُيد حول الشجرة، وهي من نوع الجميز المصري، مقام صغير ومزار مفتوح يجذب الزوار من مختلف الديانات. هذا المعلم يمثل رمزًا للسلام والنجاة، وقد حظي باهتمام كبير على مدار قرون طويلة. يجسد المكان مشهدًا نادرًا من التلاقي الروحي والثقافي الذي يعزز الوحدة بين الأديان.

اقرأ أيضًا: عاجل.. بعثة الحج المصرية تسكن الحجاج بالقرب من الحرم وتقدم تيسيرات للحالات الإنسانية

الهجرة كقيمة إنسانية

تتجاوز شجرة مريم كونها مجرد معلم ديني، لتتحول إلى رمز عميق للهجرة بوصفها قيمة إنسانية تتكرر عبر العصور. العائلة المقدسة لم تكن تسافر في رفاه، بل كانت تهرب من الموت في هجرة اضطرارية لكنها مثقلة بالأمل في حياة أفضل. تمامًا كما يهرب اليوم آلاف اللاجئين والمهاجرين من أوطانهم بحثًا عن مأوى آمن وغد أكثر رحمة وسلامًا.

ترتبط شجرة مريم بمجموعة من الدلالات الرمزية العالمية، حيث تظهر في الأيقونات القبطية والغربية كشاهد على “المأوى المؤقت” و”الانتقال المحفوف بالخشية”. تجد هذه المعاني صداها بقوة في أدبيات الهجرة المعاصرة، إذ تُمثّل الأشجار عمومًا رمزًا للثبات في وجه الترحال والقسوة التي قد تواجه المهاجرين.

مفترق طرق بين الديانات

تكتسب شجرة مريم أهمية فريدة لأنها ليست ذات مكانة في المسيحية فحسب، بل تحظى أيضًا بتبجيل واسع في التراث الإسلامي. يُشار إليها في بعض كتب السيرة والتفسير كموضع استراحت فيه السيدة مريم مع ابنها، ويُقال إن جذع الشجرة انشق ليسمح لها بالدخول والاختباء، ما يزيد من مكانتها الروحية.

اقرأ أيضًا: أرقام صادمة.. 4700 جندي ومارينز يتدفقون على كاليفورنيا لمواجهة المظاهرات

يمنح هذا التداخل بين الديانات، خاصة في مصر، الشجرة قوة رمزية مضاعفة، ويجعلها محل إجماع شعبي فريد من نوعه. زارها العديد من الخلفاء المسلمين على مر العصور، وتم ترميمها في عصور مختلفة، أبرزها في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني. حتى يومنا هذا، يُقام لها مولد شعبي صغير في المطرية، يحضره عائلات من المسلمين والمسيحيين، لتصبح الشجرة “وطنًا روحيًا” عابرًا للطوائف.

مسار العائلة المقدسة: وجهة عالمية

في عام 2022، أطلقت وزارة السياحة والآثار المصرية مشروعًا طموحًا لتوثيق وترويج “مسار العائلة المقدسة” كأحد المقاصد السياحية الدينية العالمية. دُمجت شجرة مريم ضمن هذا المسار الذي رُوّج له دوليًا بشكل مكثف. شهدت المنطقة المحيطة بالشجرة أعمال تطوير وتحسين للبنية التحتية، لتسهيل استقبال الزوار والسياح من جميع أنحاء العالم.

تسعى هذه الجهود إلى تحويل هذا الموقع الرمزي إلى نقطة تلاقي ثقافي وروحي عالمي، يعكس عمق التاريخ المصري وتنوعه. الهدف هو جذب المزيد من السياح والباحثين عن المعرفة الروحية، وتقديم تجربة غنية تجمع بين التاريخ العريق والقيم الإنسانية النبيلة التي تمثلها الشجرة.

أجيال الشجرة وحفظ تاريخها

لا تقتصر شجرة مريم على جذعها القديم فقط، بل توجد حاليًا أربعة أجيال من الشجرة، تشمل الشجرة الأم التي لم يتبق منها سوى فروع خشبية، بالإضافة إلى أجيال جديدة نمت منها. ساهمت الكنيسة الكاثوليكية، وتحديدًا الرهبان الفرنسيسكان الذين وصلوا إلى المطرية في القرن الخامس عشر عام 1584 واستمروا بها حتى 1788، في ترميم الشجرة والحفاظ عليها. من أغصان الشجرة الأم خرجت هذه الأجيال الجديدة، محافظة على إرثها التاريخي والديني.

موقع الشجرة وواقع الزوار

يُؤكد أن الموقع الحالي للشجرة هو مكانها الأصلي التاريخي الذي استراحت فيه العائلة المقدسة. حاليًا، تم ترميم المكان بالكامل ويضم “المحكي” الذي يروي المراحل المختلفة لتطوير الشجرة عبر العصور. بالرغم من أهميتها التاريخية والدينية الكبيرة، يُلاحظ أن أغلب زوار شجرة مريم من الأجانب، بينما يعتبر وجود الزوار المصريين نادرًا نسبيًا.

رحلة العائلة المقدسة بالمطرية

بدأت رحلة مسار العائلة المقدسة بالهروب من بيت لحم في فلسطين بسبب اضطهاد الملك هيرودس الذي كان يهدف لقتل السيد المسيح. توجهت السيدة مريم العذراء ويوسف النجار والسيد المسيح في رحلة هروبهم إلى مصر عبر مسار يضم حوالي 20 محطة. بدأت الرحلة من فلسطين، وتوغلت إلى مصر عن طريق الهضاب والصحارى، مستبعدين الطرق المتعارف عليها آنذاك.

وصلت العائلة إلى حدود مصر في محطتها الأولى، ومروا بمحطات متتالية منها المطرية. عبرت العائلة النيل للوصول إلى المطرية وعين شمس، حيث كانت توجد شجرة استظلوا بها من حر الشمس، والتي عُرفت لاحقًا باسم شجرة مريم. انبع المسيح نبع ماء وشرب منه، وغسلت العذراء ملابسه فيه. في نهاية الرحلة، عادت العائلة من الصعيد حتى وصلوا إلى مصر القديمة ثم المطرية مرة أخرى، ومنها إلى سيناء ثم فلسطين، حيث استقر القديس يوسف والعائلة المقدسة في قرية الناصرة بالجليل.

رسالة خالدة من شجرة مريم

وسط ما يشهده العالم من صراعات ونزوح جماعي، تظل شجرة مريم تهمس برسالتها الخالدة: أن الهجرة ليست ضعفًا، بل شجاعة في البحث عن الحياة والأمان. الظلال التي احتضنت مريم ويسوع ويوسف قبل ألفي عام، لا تزال قادرة على احتضان أرواح الباحثين عن الأمان في زماننا القاسي هذا. إنها أكثر من مجرد شجرة؛ إنها علامة على طريق النجاة، ورمز لصبر الأمهات، ورجاء المهاجرين، وذاكرة الجماعة، ومزار يجمع بين من تفرقوا في الدين أو المكان أو المصير.

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *