استراتيجية إسرائيل الجديدة.. تفكيك الهوية وتقزيم القضية باستغلال الانقسام الفلسطيني
بالتزامن مع استمرار التصعيد في قطاع غزة والذي أسفر عن آلاف الضحايا، تواصل حكومة بنيامين نتنياهو العمل على مسارات أخرى تهدف بشكل أساسي إلى عزل القطاع عن الضفة الغربية والقدس. تندرج هذه الجهود ضمن محاولات أوسع لتصفية القضية الفلسطينية وإحباط قيام دولة مستقلة، وهو ما يمثل أولوية قصوى لليمين المتطرف في تل أبيب. وقد تجلت هذه الأهداف بوضوح عقب أحداث السابع من أكتوبر، عبر دعوات لتهجير سكان غزة وفصل القطاع، وهي دعوات واجهت رفضاً إقليمياً بقيادة مصرية منذ اليوم الأول للعدوان.
استراتيجية إسرائيل لتقويض الدولة الفلسطينية المنشودة
تعتبر دعوات تهجير سكان غزة وفصل القطاع عن الضفة الغربية محاور رئيسية في الرؤية الإسرائيلية الهادفة إلى تجريد الدولة الفلسطينية المستقبلية من مقوماتها الأساسية، وهي الشعب والأرض التي تشكل إقليماً جغرافياً متصلاً. في الوقت نفسه، تعاني السلطة الفلسطينية، وهي العنصر الثالث للدولة، من حالة انقسام عميقة تسيطر على الأوضاع في فلسطين منذ عام 2007. وقد أسهم هذا الانقسام في إضعاف موقف المفاوض الفلسطيني وأثر سلباً على الدعم الدولي للقضية، الذي بات هو الآخر منقسماً بين محاور مختلفة.
تكتيكات الفصل والسيطرة: المستوطنات وتهويد القدس
لم يقتصر تكريس الفصل بين أقاليم الدولة الفلسطينية على الجغرافيا، من خلال بناء المستوطنات، بل امتد إلى أبعاد سياسية وهوية. فقد تحركت إسرائيل نحو بناء أعداد كبيرة من المستوطنات في الضفة الغربية، ما يعني تآكل أراضي الدولة الفلسطينية المنشودة وفقاً لأحكام الشرعية الدولية. وفي القدس، انتهجت سياسات أخرى قامت على تهويد المدينة المقدسة وتجريدها من هويتها العربية، في محاولة أخرى لتحقيق الانفصال. وتتزامن هذه التحركات مع استغلال إسرائيل للتوترات الإقليمية، كاندلاع “الربيع العربي” وظهور جماعات مسلحة سيطرت على مساحات شاسعة من الأراضي، لتبرير سياساتها وتكريس الفصل.
الانقسام الفلسطيني وتأثيره على المفاوضات
تهدف حالة الفصل هذه إلى أكثر من مجرد تقويض الدولة المنشودة من مكوناتها، إذ تسعى أيضاً إلى تحويل القضية إلى ملفات متعددة للتفاوض مع المجتمع الدولي واستجداء تعاطفه. تروج إسرائيل للانتهاكات في غزة كملف أمني يرتبط بوجود فصائل تمثل تهديداً لها. وفي الوقت ذاته، تسابق الزمن لبناء أكبر قدر من المستوطنات في الضفة الغربية، مانحة نفسها شرعية سياسية لبسط سيطرتها عليها. بينما تبقى القدس قضيتها الدينية، التي تسوق لها باعتبارها تمنحها حقاً أبدياً في السيطرة على المدينة المقدسة.
تحويل القضية الفلسطينية إلى ملفات متفرقة
إن النتيجة النهائية لهذه السياسات الإسرائيلية هي أن القضية الفلسطينية، التي أقرتها الشرعية الدولية منذ عقود كقضية سياسية بحتة، تنقسم اليوم إلى عدة ملفات لا ترتقي إلى مكانة القضية المركزية. يمكن تلخيص هذه الملفات في الآتي:
- **ملف أمني:** يخضع لمعادلات القوة بدلاً من مبادئ العدالة.
- **ملف جغرافي:** يتجسد في بناء المستوطنات وفصل القطاع عن الضفة الغربية.
- **ملف ديني:** يتمحور حول مدينة القدس ومحاولات تهويدها.
بهذه الطريقة، لا تعيد إسرائيل تقديم نفسها كطرف متهم بالاحتلال فحسب، بل كطرف يفرض شروط التفاوض على الجميع. سواء في أوروبا التي تخشى الإرهاب، أو في الولايات المتحدة التي تخشى فقدان السيطرة على الشرق الأوسط، أو حتى في مواجهة القوى الصاعدة كالصين وروسيا التي تفضل عدم الدخول في مواجهة مع القوى الكبرى في اللحظة الراهنة في ظل أولوياتها الاقتصادية.