في مشهد محفور في ذاكرة محافظة المنيا، ودعت قرية دلجا بصمت ماساوي اربعة من اطفالها ينتمون الى اسرة واحدة، بعد ان خطفهم مرض التهاب السحايا بكل قسوة. لقد كانت هذه الفاجعة القاسية بمثابة صرخة مدوية ايقظت الضمائر، لتسلط الضوء من جديد على احد اخطر الامراض التي قد تفتك بالبشر دون سابق انذار، وتذكرنا باهمية اليقظة والوعي الصحي.
فاجعة المنيا تكشف خطرا خفيا
لقد خلفت هذه الواقعة المؤلمة حالة من الذهول والخوف العارم بين الاهالي، خصوصا بعد ان تبين ان الاعراض التي سبقت الوفاة بدت في بدايتها شبيهة الى حد كبير باعراض الانفلونزا الموسمية العادية. هذا التشابه دفع الكثيرين الى التهاون، قبل ان تتطور الحالة بشكل سريع الى صداع حاد لا يطاق، حمى شديدة، تيبس واضح في الرقبة، بالاضافة الى حالات تهيج مستمرة وقيء شديد لا يتوقف. هذه الاحداث المتسارعة والمحزنة اعادت الى الواجهة من جديد تحدي التهاب السحايا، ذلك المرض المعروف بقدرته على التطور السريع وشدة مضاعفاته المدمرة على صحة الانسان، سواء كانوا اطفالا ام بالغين.
التهاب السحايا مرض صامت ومميت
يعرف التهاب السحايا بانه التهاب يصيب الاغشية الرقيقة التي تحيط بالدماغ والحبل الشوكي، وتعرف هذه الاغشية علميا باسم السحايا. غالبا ما ينجم هذا الالتهاب عن عدوى فيروسية او بكتيرية، مع الاشارة الى ان العدوى البكتيرية هي الاشد خطورة والاكثر فتكا، اذ يمكن ان تؤدي الى الوفاة خلال فترة زمنية قصيرة للغاية اذا لم يحصل المصاب على العلاج الفوري. ورغم ان بعض الحالات، خاصة الفيروسية، قد تشفى تلقائيا بمرور اسابيع، الا ان التاخر في تشخيص الحالات البكتيرية قد يترك وراءه مضاعفات دائمة ومغيرة للحياة، مثل تلف الدماغ او فقدان السمع او اعاقات عصبية لا شفاء منها. ينتقل هذا المرض بسرعة كبيرة بين الاشخاص عن طريق الرذاذ التنفسي المحمل بالجراثيم، او من خلال ملامسة الافرازات الفموية او التنفسية للمصابين. لذا، ينتشر العدوى بسهولة بالغة في الاماكن المزدحمة مثل المدارس ودور الحضانة، او حتى بين افراد الاسرة الواحدة. وتعد فئات معينة مثل الاطفال، وحديثي الولادة، والاشخاص الذين يعانون من ضعف في جهاز المناعة، الاكثر عرضة للاصابة بمضاعفات خطيرة جدا في حال حدوث العدوى.
علامات تحذيرية لا يمكن تجاهلها
قد تظهر اعراض هذا المرض المخيف خلال ساعات قليلة او ايام معدودة من الاصابة، وتختلف قليلا بين الفئات العمرية. لدى الاطفال والبالغين، تشمل هذه الاعراض ارتفاعا مفاجئا في درجة الحرارة يصعب السيطرة عليه، تيبسا مؤلما في الرقبة، صداعا شديدا لا يستجيب للمسكنات، شعورا بالغثيان يصاحبه قيء مستمر، حساسية مفرطة تجاه الضوء، اضطرابا ذهنيا او فقدانا للتركيز، وقد تتطور الامور الى نوبات تشنجية خطيرة، او ظهور طفح جلدي في بعض الانواع البكتيرية من المرض. اما لدى الرضع وحديثي الولادة، فتظهر الاعراض بشكل مختلف قليلا، حيث قد يعانون من حمى غير مبررة لا يعرف سببها، بكاء شديد وغير معتاد، خمول او رفضا للرضاعة، انتفاخا ملحوظا في المنطقة اللينة من الراس (اليافوخ)، بالاضافة الى تيبس في الجسم او الرقبة. يجب التعامل مع اي من هذه الاعراض بجدية قصوى وسرعة في التوجه للطبيب.
الوقاية درع واق وحماية للمجتمع
بالتاكيد، هناك طرق فعالة جدا يمكنها ان تلعب دورا حاسما في الوقاية من هذا المرض الخطير. من ابرز هذه الطرق واسهلها هو الحرص الشديد على النظافة الشخصية، وبالاخص غسل اليدين بالماء والصابون بانتظام وبشكل صحيح. كما ينصح بشدة بتجنب مشاركة الادوات الشخصية مع الاخرين، مثل الاكواب او ادوات الطعام، للحد من انتقال الجراثيم. وتعتبر تطعيمات الاطفال ضد بعض انواع البكتيريا المسببة لالتهاب السحايا، مثل المكورات السحائية والمستدمية النزلية، خطوة جوهرية في الحماية. كذلك، يظل الانتباه للاعراض المبكرة والتوجه الفوري الى المستشفى عند ادنى اشتباه في العدوى امرا حيويا للانقاذ المبكر. وفي بعض الحالات، يوصى للاشخاص المخالطين للمصابين بشكل قريب، خاصة داخل الاسرة الواحدة، بتناول مضادات حيوية وقائية بناء على توصية طبية دقيقة، حتى وان لم تظهر عليهم اي اعراض واضحة للمرض. هذه الاجراءات مجتمعة تشكل حصنا منيعا ضد انتشار التهاب السحايا.