افريقيا تشهد تحولا تاريخيا في بنيتها المينائية، فوسط دفعة قوية من التحديث والبناء، تدخل موانئ القارة مرحلة جديدة من التطور الاستراتيجي. هذا التحول مدفوع بضخ استثمارات خاصة غير مسبوقة، وتوسع ملحوظ لشركات عالمية كبرى، الى جانب تنافس ضمني على النفوذ البحري الذي بات يشكل جوهر السباق على الموارد والسيطرة على خطوط التجارة.
هذه الموجة من التوسع لا تقتصر على منطقة واحدة، فبينما يبرز ميناء طنجة ميد كنموذج فريد وبوابة تجارية كبرى لافريقيا، تتسابق دول رئيسية مثل المغرب ومصر وجنوب افريقيا بقوة لتعزيز ريادتها في هذا المجال الحيوي. في الوقت ذاته، تطلق مؤسسات بحثية عالمية تحذيرات متزايدة من تنامي الهيمنة الصينية على البنى التحتية الحساسة للقارة، وهو ما يثير تساؤلات حول مستقبل توازن القوى التجارية. رغم التقدم الملحوظ في القدرات اللوجستية بشمال افريقيا وجنوبها، لا تزال العديد من الموانئ الافريقية تواجه تحديات جمة وتصنف على انها متعثرة، بعيدة عن المستويات العالمية المطلوبة.
نمو قياسي ومحركات التوسع
اكدت مجلة “جون افريك” الفرنسية في تقريرها المعنون “الموانئ الافريقية: من يملك افضل البنى التحتية؟” ان القارة السمراء شهدت بين عامي 2018 و 2023 زيادة استثنائية بلغت 20 بالمئة في عدد توقفات سفن الحاويات بموانئها. هذه النسبة هي الاعلى على مستوى العالم، وتدل على ديناميكية متسارعة لم يشهدها القطاع من قبل. ارجعت مؤسسة Africa Finance Corporation (AFC) هذا الانجاز الى مجموعة من العوامل المتشابكة، في مقدمتها الاضطرابات الجيوسياسية في البحر الاحمر التي اعادت توجيه بعض خطوط الشحن، اضافة الى النمو المتواصل للاستهلاك الداخلي في القارة، وازدهار تجارة النفط والمنتجات السائبة التي تتطلب بنية تحتية لوجستية قوية.
طنجة ميد: ريادة افريقية ودولية
يبقى ميناء طنجة ميد بالمغرب في صدارة المشهد كرمز للتطور والفعالية. يعتبر هذا الميناء الاكثر حداثة من حيث البنية التحتية في افريقيا، ويصنف اليوم كاكبر مجمع مينائي واكفا منشا تشغيلية في القارة باكملها، كما انه احد ابرز الموانئ في حوض البحر الابيض المتوسط. اكد تقرير صادر عن الاونكتاد (مؤتمر الامم المتحدة للتجارة والتنمية) في عام 2023 ان نحو 35 بالمئة من اجمالي تجارة افريقيا مع باقي دول العالم تمر عبر ميناء طنجة ميد، الذي يتمتع بشبكة ربط واسعة تشمل قرابة 40 ميناء افريقيا.
توسعات اقليمية واستثمارات ضخمة
الى جانب الريادة المغربية والمصرية والجنوب افريقية، تشهد البنى التحتية للموانئ الافريقية حاليا طور توسع هائل. ففي غرب افريقيا، يواصل ميناء ابيدجان تسجيل نمو سريع في قدراته، الى جانب ميناء باركني سندو المعدني في السنغال. كذلك، لا يزال ميناء ندايان في طور الانشاء بتكلفة تقدر ب 1.2 مليار دولار امريكي، فيما يخضع ميناء تيما في غانا لعمليات توسعة واسعة لرفع قدرته الى 3.7 مليون حاوية قياسية. من شرق القارة الى الساحل الاطلسي مرورا بخليج غينيا، تبنى المنصات المينائية وتحدث بوتيرة متسارعة منذ مطلع الالفية الثالثة، حيث ضخت عشرات المليارات من اليورو في مشاريع البنية التحتية، خاصة في محطات الحاويات. هذه الاستثمارات الكبيرة تاتي من عدد محدود من عمالقة القطاع العالمي، مثل CMA CGM الفرنسية، MSC السويسرية الايطالية، APM Terminals الدنماركية، DP World الاماراتية، و China Merchant Port الصينية. تهدف هذه الديناميكية الى اقامة مراكز لوجستية كبرى تستقطب التبادلات الاقليمية والدولية وتربط المناطق الداخلية بالموائد الساحلية.
تحدي السفن العملاقة وتفاوت التنمية
في سياق هذا التنافس المحتدم، تزداد الحاجة الى التكيف مع التطور المستمر لسفن الحاويات العملاقة. ففي حين كانت سفن الشحن في الخمسينيات تستوعب ما بين 500 و 800 حاوية، تبلغ قدرة سفن Triple E الحديثة اكثر من 18 الف حاوية، وتصل قدرة سفينة MSC GulsunK الاكبر في العالم الى نحو 24 الف حاوية. هذا التطور يتطلب اعمال تكيف شاملة للموانئ تشمل تعميق القنوات الملاحية، توسيع الارصفة، وانشاء مناطق تخزين حديثة وواسعة.
من الناحية المالية، شهد القطاع المينائي ضخ استثمارات هائلة لاستيعاب هذه السفن العملاقة. تجاوزت الاستثمارات الخاصة في الموانئ الافريقية ما يقارب 15 مليار دولار بين عامي 2005 والنصف الاول من 2019، بينما تفوقت الاستثمارات العامة على 50 مليار دولار، وهو رقم يفوق ب 13 مرة حجم الاستثمارات خلال الفترة ما بين 1990 و 2004. ورغم هذا التقدم الكبير، يبقى تطور الموانئ غير متكافئ على مستوى القارة، حيث تجاوزت مصر والمغرب وجنوب افريقيا فقط عتبة 4 ملايين حاوية سنويا في عام 2018، وتمثل هذه الدول الثلاث ما يقارب 51 بالمئة من اجمالي حجم الحاويات المتداولة في افريقيا.
النفوذ الصيني المتزايد
لا يقتصر التحدي على البنية التحتية فقط، بل يمتد ليشمل توازن النفوذ الاستراتيجي. تستثمر الصين، التي تعد الشريك التجاري الاول للقارة، في اكثر من 46 مشروعا مينائيا في افريقيا جنوب الصحراء، مع تركيز ملحوظ على شرق افريقيا ومنطقة خليج غينيا. تشير تقارير حديثة الى ان الشركات الصينية تدير نحو 231 ميناء تجاريا في افريقيا، ما يمنحها حضورا استراتيجيا في اكثر من ربع نقاط التبادل البحري الرئيسية في القارة. يضيف مركز الدراسات الاستراتيجية الافريقية (CESA) ان “هذه الهيمنة الصينية في الموانئ الافريقية لا مثيل لها في العالم”، مشيرا الى ان الصين لا تدير سوى 10 موانئ في امريكا اللاتينية والكاريبي، و 24 ميناء في اسيا، ما يعكس حجم تركيزها غير المسبوق في افريقيا.