كشفت دراسة أمريكية حديثة عن علاقة مباشرة ومقلقة بين تلوث الهواء وارتفاع معدلات الإصابة بسرطان الرئة، خاصة بين الأشخاص الذين لم يدخنوا قط. شملت الدراسة تحليلاً معمقًا لآلاف الحالات من أربع قارات، مؤكدة أن الجسيمات الدقيقة الملوثة تسبب طفرات جينية مشابهة لتلك الناتجة عن التدخين، مما يثير مخاوف صحية عالمية متزايدة.
تلوث الهواء: مسبب خفي لسرطان الرئة
أكدت دراسة نشرتها مجلة Nature العلمية، أن الجسيمات الدقيقة من ملوثات الهواء (PM2.5)، التي يقل قطرها عن 2.5 ميكرومتر، ترتبط بحدوث طفرات جينية خطيرة تسبب سرطان الرئة. وقد ركز البحث بشكل خاص على جين TP53، المعروف بدوره المحوري في تطور السرطان المرتبط بالتدخين، مما يشير إلى آلية مشتركة للتضرر.
أظهرت نتائج الدراسة أن الأفراد الذين يعيشون في مناطق ذات مستويات تلوث أعلى، يمتلكون طفرات جينية مسرطنة أكثر في أورام الرئة لديهم، مقارنة بنظرائهم في المناطق الأقل تلوثًا. هذه الجسيمات صغيرة للغاية لدرجة أنها تتجاوز آليات الترشيح الطبيعية في الأنف والرئتين، ما يسمح لها بالتغلغل بعمق داخل الجسم وتتسبب في أضرار خلوية واسعة النطاق.
بالإضافة إلى ذلك، رصدت الدراسة مؤشرًا بيولوجيًا آخر مقلقًا لدى هؤلاء الأشخاص، وهو قصر التيلوميرات، التي تعد النهايات الواقية للكروموسومات. يُعتبر هذا القصر دليلًا على تسارع الشيخوخة البيولوجية، مما قد يفسر زيادة قابلية الإصابة بالأمراض المرتبطة بالعمر، بما في ذلك السرطان، في سن مبكرة.
دراسة عالمية تكشف الآليات الجينية
قاد فريق من العلماء من جامعة كاليفورنيا سان دييغو، بالتعاون مع خبراء من المعهد الوطني للصحة الأمريكي، تحليلاً شاملاً للجينوم في أورام 871 مريضًا لم يسبق لهم التدخين. هدف هذا التحليل إلى فهم الآليات الجزيئية الدقيقة التي تربط بين التعرض لتلوث الهواء وتطور سرطان الرئة في هذه الفئة من السكان.
تبين من خلال هذه التحليلات أن هناك علاقة مباشرة واضحة بين زيادة مستويات التلوث في المنطقة الجغرافية التي يعيش فيها الأشخاص وزيادة الطفرات الجينية المحفزة للسرطان في أنسجة الرئة لديهم. هذه النتائج تعزز الفرضية بأن تلوث الهواء لا يسبب السرطان فحسب، بل يفعل ذلك بآليات جينية محددة.
صرح البروفيسور لودميل ألكسندروف، المشارك في الدراسة، بأن “التلوث يرتبط بنفس الطفرات الجينية التي نجدها عادةً لدى المدخنين”، مؤكدًا تزايد حالات سرطان الرئة بين غير المدخنين. كما شددت الدكتورة ماريا تيريزا لاندي، أخصائية علم الأوبئة في المعهد الوطني للصحة، على أن هذه النتائج “تمثل مشكلة صحية عالمية متنامية” تستدعي اهتمامًا عاجلاً، مشيرة إلى أن الدراسات السابقة غالبًا ما أهملت التفريق بين بيانات المدخنين وغير المدخنين.
إحصائيات مقلقة وتأثيرات عالمية
تُشير الإحصائيات إلى أن نحو 230,000 شخص يُصابون بسرطان الرئة سنويًا في الولايات المتحدة، بينما يصل العدد إلى قرابة 50,000 شخص في المملكة المتحدة. تظل نسبة البقاء على قيد الحياة متدنية للغاية، حيث لا تتعدى 10% بعد عشر سنوات من التشخيص، وتشير البيانات إلى أن أربعة من كل خمسة مرضى يفارقون الحياة خلال خمس سنوات من اكتشاف المرض.
تبرز الإحصائيات اتجاهًا مقلقًا يتمثل في تزايد نسب الإصابة بسرطان الرئة بين النساء غير المدخنات، لا سيما في الفئة العمرية بين 35 و54 عامًا، بمعدل يفوق الزيادة الملاحظة لدى الرجال. هذا التوجه يسلط الضوء على عوامل خطر إضافية قد تكون أكثر تأثيرًا على النساء أو تتفاعل مع خصائصهن البيولوجية.
أكدت هذه الدراسة أن تلوث الهواء أصبح عاملًا رئيسيًا ومستقلًا في زيادة خطر الإصابة بسرطان الرئة، حتى بالنسبة للأفراد الذين يمارسون حياة صحية بعيدًا عن التدخين. ومع الارتفاع المطرد لمستويات التلوث على مستوى العالم، تُصبح هذه القضية الصحية أكثر إلحاحًا وتتطلب استجابة عالمية عاجلة للحد من تأثيراتها المدمرة على الصحة العامة.