وثيقة نادرة.. جمال عبد الناصر يروي كيف صنع يحيى العلمي دراما لم تنكسر

يحيى العلمي، أحد أبرز الأسماء في تاريخ الدراما العربية، وُلد في مثل هذا اليوم، تاركًا إرثًا فنيًا عميق الأثر. لم يكن مجرد مخرج، بل مهندس رؤى أسس لمدرسة سردية تقوم على الصدق والعمق، وخاصة في دراما الجاسوسية التي برع فيها بتقديم القصص الوطنية بنبض إنساني أصيل، مما جعله علامة فارقة لا تُنسى.

رائد دراما الجاسوسية

لا يمكن الحديث عن دراما الجاسوسية المصرية دون ذكر اسم المخرج الكبير يحيى العلمي، الذي تصدر قائمة المبدعين في هذا النوع الفني. استطاع العلمي تحويل قصص المخابرات المصرية إلى أعمال درامية مشوقة للغاية، مع الحفاظ على عمق الشخصيات وتجنب أي مبالغة أو تسطيح قد يخل بالعمل الفني. قدم شخصيات من لحم ودم، تجسد الولاء للوطن في أعمق معانيه.

في مسلسله الشهير «دموع في عيون وقحة»، رسم العلمي صورة متكاملة للجاسوس المصري جمعة الشوان، كإنسان تحركه مشاعر وطنية جياشة تتجاوز الذات. جسّد المسلسل تفاصيل رحلة جاسوس يعيش وطنه في دمه، مقدمًا نموذجًا فريدًا للإخلاص والتضحية، ليصبح علامة فارقة في الدراما المصرية والعربية بأسلوب سردي لا مثيل له.

اقرأ أيضًا: تركيز.. برج العذراء السبت 5 يوليو 2025 تضع أسسًا أوضح مع الشريك

أما في «رأفت الهجان»، تجاوز يحيى العلمي مجرد التوثيق لسيرة جاسوس، ليقدم ملحمة نفسية متكاملة. استعرض العمل ببراعة مفاهيم الاغتراب والانتماء والتضحية المستترة خلف الأقنعة التي يرتديها أبطال الوطن. قاد العلمي الأداء التمثيلي لمحمود عبد العزيز ليقدم واحدًا من أعظم أدواره الفنية على الإطلاق، محولًا القصة إلى أوبرا درامية متكاملة الأركان.

مخرج المجتمع والقضايا الإنسانية

لم يقتصر إبداع يحيى العلمي على دراما الجاسوسية وحدها، بل امتد ليشمل قضايا المجتمع وأسئلته المزمنة. أظهر حسًا أدبيًا رفيعًا في تحويل النصوص الكلاسيكية إلى سرد بصري نابض بالحياة، مما أكد قدرته الفائقة على التعامل مع مختلف الأنماط الأدبية والدرامية. كان له بصمة واضحة في معالجة القضايا الاجتماعية والفكرية.

تجلت قدراته في أعمال مثل مسلسل «الأيام» المقتبس عن سيرة عميد الأدب العربي طه حسين، ومسلسل «لا» المأخوذ عن رواية الأديب مصطفى أمين. نجح العلمي في نقل روح هذه الأعمال الأدبية إلى الشاشة، محافظًا على عمقها وفكرها الأصيل، ومقدمًا إياها بشكل جذاب ومؤثر للجمهور، ما يعكس رؤيته الفنية العميقة.

اقرأ أيضًا: صدمة لغوية.. مفرد كلمة «بطاطا» في اللغة العربية حقيقة ستدهشك

كما رصد يحيى العلمي تحولات الشخصية المصرية بين الفقد والانكسار، وبين البطش والمقاومة، في أعمال أخرى ذات طابع أكثر شاعرية وغضبًا. من أبرز هذه الأعمال مسلسلي «نصف ربيع الآخر» و«الزيني بركات»، حيث أظهر مهارة فائقة في تحليل النفس البشرية وتفاعلها مع الظروف المتغيرة، ليقدم لوحات درامية خالدة تعكس نبض الشارع المصري.

إرث فني يتجاوز الزمن

قدم يحيى العلمي على امتداد مسيرته الفنية أكثر من ثلاثين فيلمًا سينمائيًا، من بينها أعمال مميزة مثل «تزوير في أوراق رسمية» و«طائر الليل الحزين». حافظ العلمي على أسلوبه الهادئ والمؤثر، ولم يلهث أبدًا وراء الموضات السائدة، بل نحت لنفسه لغة إخراجية خاصة به، لغة لا تستعرض الإمكانيات بل تضيء الجوانب الخفية في الضمير الإنساني.

كان يحيى العلمي جزءًا أصيلًا من جيل أرسى دعائم التلفزيون المصري كمنصة تعليمية وترفيهية متكاملة. آمن هذا الجيل بأن الدراما ليست مجرد وسيلة للتسلية العابرة، بل هي أداة فعالة لبناء الإنسان وتحريض العقل على التفكير النقدي وطرح الأسئلة المهمة، مما ترك بصمة لا تمحى في الوعي الجمعي للمشاهد العربي.

في ذكرى ميلاده، يظل أثر يحيى العلمي ممتدًا، لا يقتصر على أعماله الخالدة فحسب، بل يمتد ليشمل كل محاولة درامية صادقة تسعى اليوم للاقتراب من العمق أو رواية القصص المتجذرة في وجدان هذا الوطن. ما زالت أعماله مثل «دموع في عيون وقحة» و«رأفت الهجان» معيارًا للصنعة والجودة، ويبقى العلمي علامة لا تتكرر في زمن يتسم بقلة الصدق.

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *