من قلب الصراعات المتتالية.. فوضى ثورية تكشف عبث العالم المعاصر
يستعد فيلم “One Battle After Another” لعام 2025، من إخراج بول توماس أندرسون وبطولة ليوناردو دي كابريو، ليقدم صرخة سينمائية ساخرة تعكس أزمات أمريكا المعاصرة. يمزج العمل، المستوحى من رواية “فينيلاند” لتوماس بنشون، الفوضى بالكوميديا السوداء، ليصور صراعًا عبثيًا بين ثوري سابق ونظام فاسد، حيث تختلط السياسة بالهزل في قالب درامي فريد.
“One Battle After Another”: صرخة ساخرة في عالم مضطرب
في قلب عمل بول توماس أندرسون الجديد “One Battle After Another”، تتجسد حالة ثورية متوترة تعري تعصب وتطرف العالم المعاصر. الفيلم، الذي ينسج لوحة سينمائية تتراقص فيها الفوضى مع المشاعر الإنسانية، يحول الأزمات الأمريكية إلى ملحمة درامية لا تخلو من العبث والفكاهة. يستلهم أندرسون رواية “Vineland” لتوماس بنشون الصادرة عام 1990، ولكنه يعيد صياغتها لتلائم عصر الاستبداد الحالي، حيث يتخفى قادة العالم خلف واجهات تثير الضحك بقدر ما تثير الغضب، ليصبحوا مادة لتريندات ونكات وسائل التواصل الاجتماعي التي تمزج الجدية بالهزل والسياسة بالفوضى العارمة.
شخصيات محورية: من الثوري المنهك إلى الضابط الفاسد
يقود ليوناردو دي كابريو فريق العمل بشخصية “بوب فيرجسون”، ثوري سابق تحول إلى رجل منهك، يعيش حياة سلبية وخاملة، جل اهتمامه ينصب على رعاية ابنته المراهقة “ويلي” التي تجسدها تشيس إنفينيتي. يجد بوب نفسه مطاردًا من قبل الكولونيل ستيفن لوكجو، الذي يؤدي دوره شون بن، وهو ضابط فاسد يحارب المتمردين باسم جماعة عنصرية سرية تدعى “نادي مغامري عيد الميلاد”. تضفي تيانا تايلور، التي تجسد دور “بيرفيديا” زوجة بوب الثورية الجامحة وإحدى عضوات مجموعة الميليشيا المتمردة “French 75″، طبقات من الجاذبية والقوة على أجواء الفيلم، وتبرز جموحها وشجاعتها كعنصر محرك للأحداث.
تصاعد الأحداث: رحلة بوب فيرجسون لإنقاذ ابنته
تتصاعد أحداث “One Battle After Another” بشكل درامي عندما تُختطف “ويلي” من قبل قوات الكولونيل لوكجو. هذا الحدث المفصلي يوقظ الثورة الكامنة داخل “بوب”، فينطلق في مطاردة كوميدية سوداء مليئة بالمواجهات مع الشرطة والمهاجرين والمؤامرات الحكومية، وهو ما يحمل إسقاطات حادة وكاشفة على حقبة الحكم الأمريكي المعاصرة. يتميز الفيلم بإيقاعه الشعري الذي يجعل الحبكة أشبه برقصة جامحة، فمشهد الإنقاذ من مركز احتجاز المهاجرين، حيث يندفع بوب وسط فوضى الأضواء الزرقاء، يمزج بين الضحك والرعب، وكأن الثورة ليست قتالًا بل أوبرا من الغباء الإنساني. إن الثنائية بين الكوميديا والسياسة تضفي على الحبكة نبضًا من السخرية الإنسانية، حيث تبدو كل معركة كخطوة في رقصة مضحكة تخفي الألم والمرارة خلف إيقاع الموسيقى، ويصبح الاستبداد عدوًا هزليًا مثيرًا للضحك.
الأداء التمثيلي والإخراجي: عمق فني ورؤية بول توماس أندرسون
يقدم ليوناردو دي كابريو أداءً متميزًا في شخصية “بوب فيرجسون”، الثوري السابق الذي تحول إلى رجل سلبي. شخصيته المخلصة للقضية، على الرغم من عدم قدرته على خدمتها بنفس الفاعلية، تبرز بوضوح، فهو صانع قنابل بارع توقف به الزمن منذ أن اختارت زوجته القضية وهجرت عائلتها. ينبض أداء دي كابريو بالحياة التي يعيشها بوب، حيث تتأرجح عيناه بين الوعي اليقظ وخدر المخدرات، وتجعل خطواته المتعثرة الشخصية تتأرجح بين الغباء والعمق، مما يذكر برحلة ويليام فوستر (مايكل دوجلاس) الغاضبة في فيلم “Falling Down” عام 1993، حيث يعج الشارع في كلا الفيلمين بالفوضى والتوترات الاجتماعية. على الجانب الآخر، يرسم الفيلم شخصيات الخصوم، مثل لوكجو، كأنها شخصيات كاريكاتيرية من فيلم رسوم متحركة هزلي، مما يقلل أحيانًا من وقار الصراع ويحوله إلى مسرحية هزلية. تيانا تايلور، في دور بيرفيديا، تضيف جاذبية نارية وجموحًا، يجعل دورها نبضًا يدفع الحبكة إلى الأمام، إلا أن اختفاءها لاحقًا يثير تساؤلات حول أصالة روحها المتمردة. بنيسيو ديل تورو يضيف لمسات كوميدية في دور “سينسي”، لكنها تظل سطحية.
الصورة والصوت: بناء التوتر في “معركة تلو الأخرى”
يبدأ التوتر في “One Battle After Another” بمشهد مركز احتجاز المهاجرين، وهو استهلال ذكي يرسخ مزاج الفيلم ويضع عنوانًا واضحًا لأجندته المحلية، حيث يتحول المكان إلى متاهة من الأضواء الزرقاء والصراخ. يندفع بوب، مدعومًا ببيرفيديا التي تقاتل بفنون الدفاع عن النفس كأنها راقصة باليه، وسط الحراس، والكاميرا تتبعهما في لقطة طويلة واحدة. كل ضربة من بيرفيديا تُصاحبها لقطة مقربة على وجه حارس يتفاجأ بقوة امرأة، كأنها تكسر ليس فقط العظام بل الصورة النمطية للثوري الذكوري. يندفع الأدرينالين من شريط الصورة ليدفع بالمتفرج داخل عملية مطاردة تلو الأخرى.
يمزج بول توماس أندرسون بين الكوميديا السوداء والأكشن بمهارة، حيث يصبح الاستبداد عدوًا مثيرًا للغضب والضحك في الوقت نفسه. مواقع التصوير، من كوخ بوب المهمل إلى شوارع لوس أنجلوس المظلمة، تنفس الرواية بالاحتجاج، حيث يصبح كل زقاق حكاية عن الثورة اليومية. العناصر الفنية تجعل الثورة لوحة حية، يتضافر فيها الضوء والصوت في سيمفونية من الفوضى. التصوير، بألوان جريئة (أحمر ناري للثوريين مقابل أزرق بارد للشرطة)، يجعل كل مشهد لوحة حيوية عن الصراع. الصوت، مع عويل الرياح والصراخ، يبني التوتر، حيث يصبح كل صوت نبضًا للقصة. الموسيقى التصويرية من تأليف جوني جرينوود تتكرر ثيماتها غالبًا، كأنها ضجيج روتيني يغطي على الصمت، وأصوات الآلات المنفردة مثل البيانو تحمل نبرة إزعاج ملحة، يبدو النقر على مفتاح واحد مثل جرس إنذار لا يتوقف.
نقد وتحديات: أين تكمن قوة وضعف الفيلم؟
على الرغم من براعة الفيلم، يتعثر التمثيل أحيانًا في دعم الفكرة، حيث أن أداء شون بن في دور لوكجو، بصوته العالي الخشن وأدائه الروبوتي، يجعله عدوًا كرتونيًا. هذا يضعف التهديد الحقيقي للاستبداد ويحول المطاردة من صراع وجودي إلى لعبة فيديو. كذلك، بعض المشاهد تُكرر نفس النمط من الهروب والقتال والضحك، مما يفقد الأكشن عمق الثيمة الثورية ويحوله إلى عرض بهلواني بدلًا من بيان سياسي. الإيقاع السريع يصبح فوضويًا أحيانًا، ويقلل من العمق العاطفي في لحظات تحتاج إلى الهدوء، وتبدو الكوميديا أحيانًا مصطنعة. التركيز على بوب يجعل الشخصيات الأخرى هامشية، كأن الثورة عملية فردية، أو كأن الفيلم يختزل الفشل الثوري في شخصية بوب، ويعزل الأسباب الأخرى التي أدت إلى انهيار التمرد.
حين يقود لوكجو فرقة من الضباط بأزياء عسكرية مزركشة لمداهمة كوخ بوب، وتتبعه الكاميرا وهو يهرب من النافذة الخلفية، يرفرف رداء بوب كعلم قديم ممزق، فيشعر أنه يطارد كحيوان. هذا ليس هروبًا فعليًا، بل فرار تكتيكي يسبق إعلان حرب قادمة بين الفرد والاستبداد. ينبض الأكشن في “معركة تلو الأخرى” كشريان للقصة والحرب الدائرة، لكنه ليس مجرد عدو سريع أو انفجارات مسلية؛ إنه مسرح سياسي مختزل في حركة الجسد. كل مطاردة، كل ضربة، كل قفزة فوق جدار أو انزلاق تحت سيارة، تروى بلغة الثورة والاستبداد معًا، بينما تستمر السخرية من الاستبداد الذي يحول الدولة إلى كرنفال من الفوضى والمؤامرات. كل انفجار، كل سقوط، يرمز إلى صراع بين غباء المستبدين وشجاعة الفرد. بوب فيرجسون ليس بطلًا خارقًا، بل أب يبحث عن ابنته، رجل يحمل في جيبه ذكريات قنبلة لم يعد يعرف كيف يفجرها، وفي قلبه أملًا لا يجرؤ على تسميته، هو إنسان لا يزال يبحث عن العدل الغائب بين الغباء والشجاعة.

