تطور جديد.. هل يخدع بريق الذهب المستثمرين؟ | تحليل عميق يكشف حقيقة الأسواق

حطم سعر الذهب مؤخرًا رقماً قياسياً لم يبلغه منذ أكثر من أربعة عقود، وذلك بعد تعديله ليواكب التضخم. فقد تجاوزت القوة الشرائية للمعدن الأصفر ذروته المسجلة في يناير 1980 عند 850 دولاراً، لتصل قيمتها الحالية إلى ما يعادل 3524 دولاراً أمريكياً. اللافت أن هذا الارتفاع القياسي لم يأتِ مدفوعاً بالعوامل التقليدية التي عادة ما ترفع أسعار الذهب، مما يطرح تساؤلات حول الدوافع الحقيقية وراء هذا الصعود.

الذهب يسجل رقماً قياسياً جديداً بعد تعديل التضخم

شهدت أسعار الذهب قفزة تاريخية تجاوزت مستويات قياسية استمرت لعقود طويلة عند احتسابها بقيمتها الحقيقية المعدلة للتضخم. هذا التطور يشير إلى أن الذهب لم يعد مجرد مخزن للقيمة، بل أصبح جاذباً للاستثمارات بطريقة غير مسبوقة، متجاوزاً بذلك قيمة 850 دولاراً التي سجلها في يناير 1980، والتي تعادل اليوم 3524 دولاراً بقيمتها الشرائية.

اقرأ أيضًا: توقف مفاجئ عند 72.800 دينار.. أسعار الذهب اليوم في الأردن تخالف كل التوقعات | تطور هام لعيار 21 بنهاية تعاملات الأحد

مفارقة: الأسباب التقليدية لارتفاع الذهب غائبة

عادة ما يُعزى ارتفاع أسعار الذهب إلى سببين رئيسيين: الخوف من التضخم، أو الخوف من التقييد المالي كالعقوبات وتجميد الأصول. وقد بلغت هذه المخاوف ذروتها في يناير 1980، عندما ارتفع مؤشر أسعار المستهلكين في الولايات المتحدة بنسبة 13.9% على أساس سنوي، وتزامناً مع تجميد أصول إيران في نوفمبر 1979.

لكن الوضع الحالي يختلف تماماً. فأسعار الذهب لم تشهد ارتفاعاً أو انخفاضاً يذكر منذ بداية الجائحة وحتى نهاية أكتوبر 2022، ثم بدأت بالصعود المستمر منذ ذلك الحين. في المقابل، بلغ معدل التضخم ذروته عند 9.1% في يونيو 2022، ثم تراجع إلى 7.7% ويواصل التباطؤ. كما وصلت عتبة الربحية للسندات لأجل 10 سنوات، والتي تعكس توقعات السوق للتضخم المستقبلي، إلى أعلى مستوياتها عند 3.04% في أبريل 2022، ثم انخفضت إلى 2.51% بنهاية أكتوبر من العام نفسه. هذه المعطيات تُشير إلى أن التضخم ليس الدافع الرئيسي لارتفاع سعر الذهب في هذه الدورة.

اقرأ أيضًا: ذهب يهوي.. أسعار الذهب اليوم في مصر الأربعاء 30-7-2025: عيار 21 يسجل 4580 جنيهاً

كذلك، يصعب إلقاء اللوم على التوترات الدولية أو التشدد المالي الأمريكي. فغزو روسيا لأوكرانيا حدث في أوائل عام 2022، وتراجعت تداعياته على الذهب بحلول أكتوبر من العام نفسه، بينما الهجوم على إسرائيل لم يحدث إلا بعد عام من بدء ارتفاع أسعار الذهب. في الحقيقة، لم تكن هناك أحداث دولية أو سياسية أو مالية كبرى تبرر بدء هذا الارتفاع المستمر في ذلك التوقيت.

تكلفة حيازة الذهب والعائد المفقود

تُعد تكلفة حيازة الذهب مرتفعة نسبياً. ففي صناديق الذهب المتداولة (ETFs)، قد تصل هذه التكلفة إلى حوالي 0.5% سنوياً. أما في حالة شراء الذهب المادي، فتضاف إليه تكاليف التخزين والتأمين. وتزداد هذه التكلفة في حالة تجديد عقود الذهب الآجلة.

اقرأ أيضًا: بشائر الحل.. خبير اقتصادي يكشف خريطة إنهاء أزمة الباعة الجائلين بتوجيهات الرئيس السيسي

بالإضافة إلى ذلك، لا يحصل المستثمر على العائد الحقيقي الإيجابي الذي يمكن تحقيقه من الأصول الأخرى الأكثر أماناً. يمكن تقدير هذه الخسارة بمتابعة العائد على سندات الخزانة المحمية من التضخم (TIPS) لأجل 10 سنوات، والتي تضمن حالياً عائداً يفوق معدل التضخم بنسبة 1.67%. بناءً عليه، فإن من يملك أونصة من الذهب عبر صندوق متداول يتنازل عن دخل محتمل يبلغ 2.17%، أي ما يعادل 79 دولاراً سنوياً.

تحول في سلوك المستثمرين: من المطالبة بالتعويض إلى دفع الثمن

شهد سلوك المستثمرين تجاه الذهب تحولاً ملحوظاً خلال السنوات القليلة الماضية، حيث تغيرت نظرتهم إلى القيمة المقدرة لامتلاك أونصة من الذهب بمرور الوقت، والمعدلة وفقاً للتضخم.

اقرأ أيضًا: خطأ واحد يمنعك من صرفه.. كيف تتجنب رفض الشيك في البنوك المصرية بخطوات بسيطة؟

الفترة الزمنيةسلوك المستثمرينالقيمة المقدرة / التكلفة السنوية لحيازة الأونصة
قبل بدء الارتفاع الحالي (في فترة سابقة)يطالبون بتعويض عن حيازة الذهب9 دولارات سنوياً (كمبلغ تعويض مطلوب)
بعد تبدل الظروف (الفترة الحالية)مستعدون للدفع مقابل حيازة الذهب91 دولاراً سنوياً (كمبلغ مستعدون لدفعه)

رغم أن سعر الذهب كان في صعود من بداية 2018 حتى الجائحة، إلا أن القيمة المقدرة لامتلاك أونصة من الذهب كانت تتجه للانخفاض، بل أصبحت سلبية في يونيو 2020، ولم تعد إيجابية إلا في أبريل 2022. خلال هذه الفترة، كان المستثمرون يطالبون بتعويض مقابل حيازة الذهب، بدلاً من الدفع لاقتنائه كما هو معتاد.

قبل عام من بدء الارتفاع الأخير في أسعار الذهب، تبدل حال المستثمرين جذرياً. فبعد أن كانوا يطالبون بتسعة دولارات سنوياً كتعويض عن حيازة الذهب، أصبحوا مستعدين لدفع مبلغ وصل إلى 91 دولاراً مقابل امتلاك الأونصة الواحدة. يعود هذا التغيير بشكل أساسي إلى ارتفاع عائدات سندات الخزانة المحمية من التضخم، وليس بالضرورة ارتفاعاً في سعر الذهب نفسه، بل هو مؤشر على زيادة القيمة التي يرى المستثمرون أنهم مستعدون لدفعها مقابل امتلاك الذهب.

اقرأ أيضًا: تطورات السوق.. أسعار الطوب اليوم في مصر تكشف عن مفاجأة | تحديث 30 أغسطس 2025

الذهب والملاذات الآمنة الأخرى: أنماط متشابهة

الغريب أن هذا النمط من السلوك الاستثماري تكرر في أدوات التحوط الأخرى ضد التضخم ومخاطر التقييد المالي. فخلال الجائحة، والغزو الروسي، وموجة التضخم، كان المستثمرون يرغبون في الحصول على مقابل لامتلاك الذهب. ثم عادوا ليكونوا مستعدين للدفع مقابل امتلاكه عندما استقرت الأوضاع نسبياً.

ظهر النمط ذاته في أصول أخرى مثل الفرنك السويسري و”بيتكوين”. لم تُظهر هذه الأصول اتجاهاً واضحاً عندما بلغ معدل التضخم ذروته، وازدادت الضبابية السياسية والدولية. ولكن سرعان ما ارتفعت قيمتها بمجرد أن بدأت المخاطر في الانحسار، مما يشير إلى أن هذه الأصول تُفضل في أوقات الاستقرار وليس بالضرورة في أوج الأزمات كما كان يُعتقد سابقاً.

العائد الحقيقي ودوره في تحركات أسعار الذهب والأسهم

ماذا لو كان صعود الذهب مجرد عامل يصرف الانتباه عن التطورات في سوق الأسهم، مثل جاذبية الاستثمار في مؤشر “إس آند بي 500″؟ إذا كان المستثمرون يخشون التضخم، لكانت عتبة الربحية (Breakeven Inflation Rate) قد ارتفعت بشكل كبير، لكنها ظلت تتحرك في نطاق ضيق خلال عام 2025، من 2.17% إلى 2.47% ثم إلى 2.37% في نهاية الأسبوع الماضي.

الواضح أن القوة الدافعة الرئيسية وراء كل من مؤشر “إس آند بي 500” وأسعار الذهب تكمن في التغيرات في معدل العائد الحقيقي، وهو ما يطالب به المستثمرون لامتلاك الأصول الآمنة والمحمية من التضخم. ومع تراجع هذا المعدل خلال عام 2025، لم يطرأ تغيير كبير على القيمة التي يتوقعها المستثمرون لامتلاك الذهب، مما أدى إلى ارتفاع سعره. فإذا كنت مستعداً لدفع 90 دولاراً سنوياً مقابل أي مكسب من أونصة الذهب، ومع تراجع معدلات العائد الحقيقي، ستكون مستعداً لدفع مبلغ أكبر نظير هذه الأونصة.

في المقابل، خفض المستثمرون في الأسهم المعدل المتوقع للعائد الحقيقي مع تراجع عائدات سندات الخزانة المحمية من التضخم، مما أدى إلى ارتفاع مؤشر “إس آند بي 500” بنسبة 12% فقط. نظراً لغياب القلق من التضخم بشكل واضح، فإن التغيرات الكبيرة في العائد الحقيقي المتوقع على الأسهم، وليس الذهب، تشير إلى مخاوف متزايدة من الركود الاقتصادي. لفهم الأسواق في الفترة الحالية، يجب متابعة سندات الخزانة المحمية من التضخم والأسهم. ربما يكون بريق الذهب جذاباً، لكنه قد يصرف الأنظار عن المعطيات الأساسية التي تحرك الأسواق.