بعد غياب طويل.. هل يعود العالم إلى عصر أسعار الفائدة الصفرية مجددًا؟ | تطور اقتصادي يغير الحسابات
شهدت الأسواق العالمية تحولات متباينة في سياسات البنوك المركزية الكبرى، فبينما يتجه الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي نحو خفض محتمل لأسعار الفائدة مدفوعًا ببيانات اقتصادية أضعف من المتوقع، يتبنى البنك المركزي الأوروبي نهجًا أكثر حذرًا. في المقابل، يسير بنك اليابان في الاتجاه المعاكس برفع تدريجي لمعدلات الفائدة، مما يعيد طرح تساؤلات حول عودة “عصر السيولة الرخيصة” وتأثير هذه التباينات على حركة رؤوس الأموال والأسواق المالية العالمية.
شبح أسعار الفائدة الصفرية في الاقتصاد العالمي
قبل أكثر من عقد، دفع العالم نفسه نحو أزمة مالية حادة، استدعت استجابة غير مسبوقة من البنوك المركزية الكبرى التي لجأت إلى أسعار فائدة قريبة من الصفر، وأحيانًا سلبية. هذا العصر من “السيولة الرخيصة” طال أمده، مما شجع المستثمرين على المخاطرة بحثًا عن العائد، وأعاد تشكيل قواعد اللعبة في المشهد الاقتصادي العالمي برمته. ورغم مرور سنوات على الخروج التدريجي من تلك المرحلة، يطرح السؤال بقوة اليوم: هل نحن على أعتاب عودة إلى زمن الفائدة الصفرية؟ يأتي هذا التساؤل في ظل مؤشرات اقتصادية متباينة عالميًا، تشمل بيانات أمريكية أضعف من المتوقع، تضخم متقلب في أوروبا، وأجور متسارعة في اليابان. هذه اللحظة المفصلية، رغم اختلافها عن مشهد ما بعد أزمة 2008، تذكرنا بأن قرارات البنوك المركزية لا تحدد فقط تكلفة الاقتراض، بل ترسم مسار الثقة في الأسواق العالمية وتعيد تشكيل حركة رؤوس الأموال بين العواصم المالية.
الفيدرالي الأمريكي: توقعات بخفض أسعار الفائدة
في الولايات المتحدة، تتزايد رهانات المستثمرين على أن مجلس الاحتياطي الفيدرالي سيبدأ خفض أسعار الفائدة قريبًا. جاء ذلك بعد أن أظهرت البيانات تباطؤًا واضحًا في سوق العمل. فقد كشفت المراجعات الأخيرة عن إضافة وظائف أقل بنحو 911 ألف وظيفة عما كان مُعلنًا سابقًا للفترة بين أبريل 2024 ومارس 2025، وجاءت أرقام أغسطس أضعف من توقعات المحللين. هذه الصورة عززت قناعة الأسواق بأن الاقتصاد الأمريكي يحتاج إلى جرعة دعم عبر خفض تدريجي للفائدة. وفي اجتماعه الأخير في يوليو الماضي، ثبت الفيدرالي أسعار الفائدة عند مستوى يتراوح بين 4.25% و 4.5% للمرة الخامسة على التوالي. تشير توقعات عقود الفيوتشر، التي تعكس رهانات المستثمرين على اتجاه أسعار الفائدة المستقبلية، إلى ثلاثة انخفاضات محتملة خلال 2025: الأول بمقدار ربع نقطة مئوية في اجتماع سبتمبر، يليه خفضان إضافيان في أكتوبر وديسمبر. هذا المسار التدريجي لا يعني العودة إلى “زمن الصفر”، وهو أمر غير مرجح في الأفق القريب لمعظم المحللين، لكنه يضع الفيدرالي أمام معادلة صعبة بين دعم النمو وتجنب إعادة إشعال التضخم، حيث يظل المسؤولون حذرين من عودة الضغوط السعرية.
المركزي الأوروبي: تحفظ وتريث في منطقة اليورو
في أوروبا، تختلف الصورة بعض الشيء، فمع تباطؤ النشاط الصناعي وتراجع التضخم عن ذروته، يظل البنك المركزي الأوروبي أكثر تحفظًا في قراراته. يبلغ سعر الفائدة على عمليات إعادة التمويل الرئيسية حاليًا نحو 2.15%، بينما يقف سعر الإيداع عند 2.00%. هذه المستويات أقل بكثير من الذروة التي تجاوزت 3.75% في عام 2024، لكنها لا تزال مرتفعة مقارنة بالسنوات التي سبقت أزمة التضخم الأخيرة. تشير توقعات المحللين بحسب وكالتي رويترز وفايننشال تايمز إلى أن أي خفض واسع وسريع لأسعار الفائدة غير مرجّح في الأفق القريب. قد يكتفي البنك بخفض محدود أو يؤجل القرار إذا أظهر النشاط الاقتصادي صلابة أكبر مما هو متوقع. هذا التريث جعل اليورو يتحرك في نطاقات محدودة مقابل الدولار، بينما تبقى الأسهم الأوروبية أكثر حذرًا مقارنة بنظيرتها الأمريكية التي تستفيد من آمال التيسير الفيدرالي.
بنك اليابان: اتجاه معاكس في السياسة النقدية
يمثل بنك اليابان الاستثناء الأبرز بين البنوك المركزية الكبرى. فبينما تستعد البنوك الأخرى لخفض الفائدة أو التريث، تشير التوقعات إلى أن بنك اليابان قد يواصل رفع معدلاته تدريجيًا خلال ما تبقى من العام. بعد عقود من أسعار الفائدة السلبية، أقدم بنك اليابان في ربيع 2024 على رفعها تدريجيًا لتخرج إلى المنطقة الإيجابية لأول مرة منذ سنوات طويلة. يبلغ سعر الفائدة الأساسي الآن نحو 0.5%، وهو مستوى يبدو ضئيلًا مقارنة بنظرائه في الغرب، لكنه يمثل تحولًا تاريخيًا في السياسة النقدية اليابانية. السبب الرئيسي لهذا المسار المعاكس هو أن التضخم لا يزال أعلى من هدف البنك، مدعومًا بارتفاع الأجور بشكل ملحوظ. هذه السياسة المغايرة تضع الين في موقف قوي أمام الدولار والعملات الأخرى، خاصة إذا واصل الفيدرالي الأمريكي مسار الخفض.
بنك إنجلترا: موازنة دقيقة بين التضخم والنمو
في بريطانيا، يسير بنك إنجلترا على خط أكثر حذرًا بين مكافحة التضخم ودعم النمو الاقتصادي، حيث يبلغ سعر الفائدة الأساسي الآن 4%. بعد سلسلة من الرفع المكثف في عامي 2022 و2023 لاحتواء موجة تضخمية غير مسبوقة، بدأ البنك مسار خفض تدريجيًا منذ مطلع 2025 مع تراجع معدلات التضخم. ومع ذلك، لم ينجح هذا المسار في مواجهة جميع الضغوط الاقتصادية مثل تباطؤ النمو وسوق العقارات بشكل واضح. وفقًا لفايننشال تايمز، يتوقع أن يُبقي البنك على مستويات الفائدة الحالية لفترة أطول نسبيًا، مع احتمال خفض محدود في أوائل عام 2026 إذا استمرت أسعار المستهلك في التراجع.
مستويات الفائدة الحالية لأبرز البنوك المركزية في العالم
مستويات الفائدة الحالية لأبرز البنوك المركزية في العالم: | ||
البنك المركزي | سعر الفائدة الأساسي الحالي (%) | الملاحظات |
الاحتياطي الفيدرالي | 4.25 – 4.5 | نطاق ثابت منذ يوليو 2025 |
البنك المركزي الأوروبي | 2 – 2.15 | بعد خفض تدريجي |
بنك إنجلترا | 4.00 | خُفض في أغسطس 2025 |
بنك اليابان | 0.50 | أوصى بالاستقرار بعد رفعه في يناير 2025 |
البنك الوطني السويسري | 0.00 | خُفض في يونيو 2025 |
انعكاسات تباين السياسات النقدية على المستثمرين والأسواق العالمية
يرسم التباين في سياسات البنوك المركزية ملامح مرحلة جديدة للأسواق العالمية، حيث يزيد من تقلبات أسعار الصرف ويجعل قرارات الاستثمار عبر الحدود أكثر تعقيدًا. ينعكس هذا مباشرة على الأصول المالية، فخفض الفيدرالي قد يمنح الأسهم الأمريكية دفعة صعودية جديدة، في حين يتراجع الدولار لصالح عملات مثل الين أو اليورو. أما في أوروبا، فإن أي تردد أو تثبيت للفائدة يترك الأسواق في حالة ترقب، وقد يدفع المستثمرين نحو الذهب أو السندات كملاذ آمن. لكن يظل التحدي الأكبر مرتبطًا بمخاطر التضخم. فإذا بقيت معدلات الأسعار أعلى من المستهدف في أي من هذه المناطق، فإن قدرة البنوك المركزية على مواصلة الخفض ستتراجع بشكل كبير.
سيناريوهات مستقبل أسعار الفائدة العالمية
يمكن رسم ثلاثة سيناريوهات محتملة لمستقبل أسعار الفائدة العالمية في ظل هذه التباينات:
- السيناريو الأول والأكثر ترجيحًا: يتمثل في سلسلة خفض متدرج من الفيدرالي الأمريكي حتى نهاية 2025، مع تريث أوروبي وتشدد ياباني نسبي، ما يخلق بيئة أسعار فائدة منخفضة لكنها بعيدة عن الصفر.
- السيناريو الثاني الأقل احتمالًا لكنه مهم: يتمثل في هبوط مفاجئ للتضخم العالمي يقود إلى موجة خفض متزامنة للفائدة، وهو ما قد يعيد شبح “عصر الصفر” لكن فقط في حال حدوث صدمة اقتصادية كبرى غير متوقعة.
- السيناريو الثالث والأخير: يرتبط بارتفاع مفاجئ في الأجور أو أسعار الطاقة، ما قد يعيد الضغوط التضخمية ويدفع البنوك المركزية إلى التثبيت أو حتى الرفع مجددًا لمكافحة عودة التضخم.
تظل ذكرى “زمن الصفر” حاضرة، كشبح يذكّر المستثمرين بأن الصدمات الكبرى وحدها قادرة على إعادة عقارب السياسة النقدية إلى تلك المرحلة الاستثنائية.
المصادر: أرقام، رويترز، بلومبرج، فايننشال تايمز، إنفستوبيديا، ماركت ووتش، وول ستريت جورنال.