سياسة ترامب تدفع أوروبا إلى بناء قوتها واستقلاليتها

لطالما كانت الولايات المتحدة تبعث برسالة واضحة إلى حلفائها الأوروبيين مفادها: عليكم أن تفعلوا المزيد، وأن تنفقوا المزيد على الدفاع، وتتحملوا المزيد من المخاطر وتواجهوا الكرملين، وأن تشاركوا في حروب الولايات المتحدة، إضافة إلى قائمة تطول من المطالب.

لكن إسهامات أوروبا لم تكن كافية في العادة، وعندما تم إنشاء حلف شمال الأطلسي (الناتو) عام 1949، سأل الكونغرس الأميركي، وزير الخارجية الأميركي حينها، دين إكيسون، عما إذا كان ذلك يعني أن كثيراً من الجنود الأميركيين سيظلون في أوروبا؟. فرد بجواب صريح وهو: «لا. لأن الحلف ما هو إلا جسر لأوروبا لينقلها إلى الاعتماد على نفسها».

وبعد 10 سنوات من ذلك، قال الرئيس الأميركي دوايت إيزنهاور، إن أوروبا لم تتوصل إلى الاعتماد على النفس حتى الآن.

اقرأ أيضًا: الوعي يصدر قرارًا بتعيين “حازم الملاح” رئيسًا للجنة الصحافة والاتصال بالحزب

لكن الولايات المتحدة لم تسع منذ بداية الحرب الباردة، إلى ربط أوروبا بالدفاع المشترك ضد الاتحاد السوفييتي فحسب، وإنما حاولت إبقاءها تحت وصايتها، إلا أن بعض الدول الأوروبية رفضت ذلك. ففي عام 1958 طالب الرئيس الفرنسي، شارل ديغول، بتشكيل قيادة ثلاثية لحلف «الناتو» للقوى النووية، لكن بريطانيا والولايات المتحدة رفضتا ذلك، فانسحبت فرنسا عسكرياً من «الناتو».

بدوره، طغى التهديد السوفييتي على هذه الخلافات. وعند انهيار الاتحاد السوفييتي في عام 1991، بدا أن تهديد الاتحاد انتهى، لكن الحلف ظل كما هو، ما دفع الحلفاء الأوروبيين في الحلف إلى تأكيد أولوياتهم. وفي عام 1998 وقعت فرنسا وبريطانيا اتفاقية تعاون تنص على أن على الاتحاد الأوروبي (حيث كانت بريطانيا لاتزال ضمنه)، العمل بصورة مستقلة، مدعوماً بقوة عسكرية ذات مصداقية، لكنّ بريطانيا ودولاً أوروبية أخرى لم توافق على ذلك، في وقت كان فيه «الاتحاد الأوروبي» كثير الكلام، دون أي عمل في ما يتعلق بأمنه المشترك.

الخطر الروسي

اقرأ أيضًا: الفجيرة تصوغ أول منظومة تشريعية عربية لتنظيم سياحة المغامرات

لكن الأمور تغيرت الآن، فبعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، أصبح خطر روسيا ملموساً، كما أصبحت أوروبا تأخذ الأمر على محمل الجد أكثر من أي وقت مضى، خصوصاً في ظل الموقف الأميركي إزاء أوروبا.

وتطور الحديث للغاية بشأن وضع اتفاقية أمنية ودفاعية جديدة بين دول الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة التي خرجت من الاتحاد، وأصبح وزراء بريطانيون يحضرون قمم الاتحاد الأوروبي بانتظام، وكذلك النرويج وهي ليست من دول الاتحاد الأوروبي.

وباتت الدول الكبيرة في الاتحاد – مثل فرنسا وألمانيا اللتين كانتا ترفضان تدخل بروكسل في شؤونهما الأمنية – أكثر استعداداً لرؤية المفوضية الأوروبية التي تقودها وزيرة الدفاع الألمانية السابقة، أورسولا فون دير لاين، تأخذ زمام المبادرة من خلال الاقتراض المشترك، والصلاحيات الجديدة، والنطاق الجديد.

عواقب عملية

كانت لذلك عواقب عملية، لاسيما أن إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، لم تعد تنظر إلى أوروبا كحلفاء، ولن تبيعهم الأسلحة بسهولة. ونتيجة تصريحات ترامب الكثيرة في هذه المرحلة، تنظر البرتغال وكندا في احتمال إلغاء شراء طائرات «لوكهيد مارتن إف – 35 الشبح»، كما باتت الدنمارك تفكر في أنه يجب عليها استخدام أنظمة «سامب/تي إن جي» الفرنسية الإيطالية للدفاع الجوي، بدلاً من نظام «باتريوت» بعد تهديد ترامب بالاستيلاء على غرينلاند.

ويجري العمل كذلك على خطط لوضع نظام مالي لتمويل الدفاع الأوروبي، من أجل شراء الأسلحة من الشركات الأوروبية فقط، وهذا لن يكلف الولايات المتحدة كثيراً من الوظائف والأرباح فقط، بل سيُضعف نفوذها في أوروبا.

الوضع الأوروبي

لقد كانت جهود الاستخبارات الأوروبية موضع سخرية في السابق. أما الآن، فقد أصبحت لديها ميزانيات ونفوذ وكوادر وخبرات، لكن هذا التحول سيتميز بالفوضى، بالنظر إلى أن أوروبا لاتزال تفتقر كثيراً إلى مزيد من الجنود والدبابات والمدافع والذخائر والمراقبة واللوجستيات، وأصول أخرى حتى يكون لديها نظام دفاعي تقليدي صلب، كما أنها تفتقر إلى القوى الجوية، والأسلحة بعيدة المدى والردع التقليدي الفعال. وحتى توفير قوة مطمئنة متواضعة في أوكرانيا بعد وقف إطلاق النار، يبدو ضرباً من الخيال دون دعم لوجستي أميركي.

وسيتطلب ذلك إظهار الوحدة السياسية التي تقول «إننا قوة لا يستهان بها»، إضافة إلى خطط مقنعة لإعادة التسلح، وتجنيد الجنود، والقوة النووية. ويجب على الأوروبيين التعامل مع الهجمات الروسية التي لا ترقى إلى مستوى الحرب، مثل تخريب البنى التحتية، والهجمات السيبرانية، والأموال القذرة، والدعاية الإعلامية. ولا يعني كل ذلك التضحية ببعض السيادة السياسة الوطنية، وإشعال فتيل محرمات أخرى، بل سيشمل زيادة الضرائب، وانخفاض مستويات المعيشة، وتراجع الخدمات العامة.

وسيكون المسار واضحاً، فكلما ازدادت دعوات ترامب (أميركا أولاً)، ازداد سماع الأوروبيين لعبارة «أنقذ من تستطيع»، واندفعوا بعيداً عن حطام تحالف اعتبروه خطأ، أمراً مفروغاً منه. كما تزيد كل خطوة في هذا الاتجاه نفوذ أوروبا، وتُضعف نفوذ الولايات المتحدة.

وكما أشارت وزيرة الدفاع الألمانية السابقة أورسولا فون دير لاين، أخيراً: «الواقع حليف قوي»، والواقع يدفع بقوة نحو التغيير.

أوروبا قوية

سينتهي المطاف بالولايات المتحدة إلى وضع لطالما حاولت تجنّبه: أوروبا قوية مستقلة التفكير. وفي الحقيقة لن يكون من المبالغة بناء نصب تذكاري لترامب في وسط بروكسل، لإضافته إلى مؤسسي الوحدة الأوروبية، مثل جان مونيه، وروبرت شومان، وسيمون فيل.

وهذه ليست كلها مساوئ، فهذا الكيان الجديد ربما سنطلق عليه اسم «الولايات المتحدة الأوروبية»، وربما يكون شريكاً قوياً وفعالاً بالنسبة للإدارات الأميركية في المستقبل، لمكافحة تغير المناخ، وأشياء أخرى، لكنه سيكون أقرب إلى «شراكة بين أنداد».

وفي ما يتعلق بقضايا أخرى مثل الإدارة المالية العالمية، والصراع في الشرق الأوسط، والقانون الدولي، ستكون للأوروبيين أفكارهم وأولوياتهم الخاصة، وسيؤكدونها دون تردد، وربما بقلق. لقد كان لعصر الوصاية ثمن، لكن الأميركيين سيفتقدونه عندما يزول.

التعاون الاستخباراتي بين أوروبا والولايات المتحدة

يمثل تبادل المعلومات الاستخباراتية مجالاً آخر لنفوذ الولايات المتحدة في أوروبا. فمنذ عقود منحت القدرات الهائلة لوكالة المخابرات المركزية الأميركية، ووكالة استخبارات الدفاع، ووكالة الأمن القومي، وغيرها من الوكالات، الجانب الأميركي التفوق في علاقاته مع نظرائه الأوروبيين. وقد ساعدت المعلومات الاستخباراتية الأميركية دولاً مثل ألمانيا وإستونيا في القبض على جواسيس روس. وفي المقابل، كانت الوكالات الأوروبية سعيدة بتقديم أي قدرات متخصصة قد تكون مفيدة.

لكن الأمور تغيرت الآن، إذ أصبح قادة المؤسسات الاستخباراتية الأوروبية يفكرون مرتين قبل التعاون الأمني مع نظرائهم الأميركيين. وقال أحد مسؤولي الاستخبارات الأوروبيين: «نفترض أن هذه المعلومات وصلت إلى الإحاطة اليومية للرئيس، وكشف عنها»، وهذه الإحاطة هي خلاصة يومية شديدة السرية لأهم أسرار مجتمع الاستخبارات الأميركي.

وهنا يشعر الأوروبيون بقلق من تقلبات الإدارة الأميركية، فقد رأوا أن تبادل المعلومات الاستخباراتية مع أوكرانيا توقف لمعاقبة الحكومة في كييف على إحجامها عن الالتزام بخطط وقف إطلاق النار الأميركية. والأوروبيون يفترضون هنا أن البيت الأبيض قد يقرر معاملة حليف أوروبي آخر المعاملة ذاتها.  *إلكساندرا شارب *كاتبة في «فورين بوليسي»

• البرتغال وكندا تنظران في احتمال إلغاء شراء طائرات «لوكهيد مارتن إف – 35 الشبح»، والدنمارك تفكر في الاستغناء عن نظام «باتريوت» الأميركي.