الدولار يفقد جاذبيته ملاذاً آمناً للمستثمرين بسبب سياسات الإدارة الأميركية

من المفترض أن يشكل الدولار الأميركي مصدر أمان للمستثمرين والأسواق، لكنه أصبح أخيراً مصدر قلق، فمنذ ذروة ارتفاعه، في منتصف يناير الماضي، انخفض بأكثر من 9% مقابل سلة من العملات الرئيسة، وقد حدث خُمسا هذا الانخفاض منذ الأول من أبريل الجاري، حتى مع ارتفاع عوائد سندات الخزانة الأميركية لـ10 سنوات تدريجياً بمقدار 0.2 نقطة مئوية.

هذا المزيج من ارتفاع العائدات وانخفاض قيمة العملة يُمثل علامة تحذير مفادها أنه إذا كان المستثمرون يهربون من أميركا رغم ارتفاع العوائد، فقد يشير ذلك لاعتقادهم بأن أميركا أصبحت أكثر خطورة من حيث اقتصادها، حيث تنتشر شائعات بأن كبار مديري الأصول الأجنبية يتخلصون من الدولار الأميركي.

لعقود من الزمن، اعتمد المستثمرون على استقرار الأصول الأميركية، ما جعل هذه الأصول ركيزة أساسية للتمويل العالمي.

اقرأ أيضًا: مصر ترفض التهجير القسري.. آلاف المصريين يحتشدون أمام معبر رفح دعماً لفلسطين

ويساعد عمق سوق بقيمة 27 تريليون دولار أميركي في جعل سندات الخزانة ملاذاً آمناً، إذ يهيمن الدولار على تداول كل شيء من السلع والبضائع إلى المشتقات المالية.

ويدعم هذا النظام مجلس الاحتياطي الفيدرالي، الذي يَعِد بانخفاض التضخم، كما تدعمه الحوكمة الأميركية المتينة التي تُرحّب بالأجانب وأموالهم، وتُؤمّن لهم الأمان، لكن في غضون أسابيع قليلة، بدد الرئيس دونالد ترامب هذه الافتراضات الراسخة لتحل محلها شكوك مقلقة.

ركود وعجز

اقرأ أيضًا: الغموض مستمر بعد 80 عامًا..معركة لوس أنجلوس.. هجوم فضائي أم إنذار كاذب؟

هذه الأزمة المُتأججة وليدة البيت الأبيض، فقد أدت حرب ترامب التجارية، التي وُصفت بـ«المتهورة»، إلى زيادة التعرفات الجمركية بنحو 10 أضعاف، وخلقت حالة من عدم اليقين الاقتصادي، بعد أن كان الاقتصاد الأميركي في يوم من الأيام في وضع يثير حسد العالم، لكنه الآن على وشك الركود، حيث تُمزق التعرفات الجمركية سلاسل التوريد، وتزيد التضخم، وتعاقب المستهلكين.

يأتي هذا في وقت يزداد الوضع المالي الأميركي سوءاً، ربما أسوأ وضع له في التاريخ، فقد بلغ صافي الديون نحو 100% من الناتج المحلي الإجمالي، وكان عجز الموازنة خلال العام الماضي، البالغ 7%، مرتفعاً بشكل مذهل بالنسبة لاقتصاد سليم.

ومع ذلك، في سعيه لتجديد وتمديد التخفيضات الضريبية التي وافق عليها ترامب في ولايته الأولى، يحاول الكونغرس اقتراض المزيد، ففي 10 أبريل، وافق الكونغرس على مخطط ميزانية قد يضيف 5.8 تريليونات دولار إلى العجز خلال العقد المقبل، وفقاً للمؤسسة الفكرية «من أجل ميزانية فيدرالية مسؤولة».

ومن شأن ذلك أن يزيد العجز بنقطتين مئويتين إضافيتين، ويتجاوز القيمة الإجمالية لتخفيضات الضرائب التي أقرها ترامب في ولايته الأولى، وتخفيض الإنفاق الإضافي خلال جائحة «كوفيد-19»، وفواتير التحفيز والبنية التحتية التي أقرها الرئيس السابق جو بايدن، كل هذا سيضاعف من وتيرة ارتفاع نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في السنوات المقبلة.

انكماش اقتصادي

وما يجعل هذا الانكماش الاقتصادي وفقدان الانضباط المالي مُقلقين إلى هذا الحد، هو أن الأسواق بدأت تشك في قدرة ترامب على حكم أميركا بكفاءة وثبات.

وكانت الطريقة الفوضوية وغير المتماسكة لحساب الرسوم الجمركية والكشف عنها، ثم تأجيلها لـ90 يوماً استهزاء بصناعة السياسات، فهذه الإعفاءات المتقطعة والرسوم الجمركية الباهظة تعزز جماعات الضغط، ولعقود من الزمن، أبدت أميركا التزامها بالحفاظ على قوة الدولار، واليوم يتحدث بعض مستشاري البيت الأبيض عن العملة الاحتياطية كما لو كانت عبئاً يجب تقاسمه باستخدام الإكراه إذا لزم الأمر.

ضغط كبير

وهذا، حتماً، يضع مجلس الاحتياطي الفيدرالي تحت ضغط كبير، فقد يضغط ترامب على البنك المركزي لخفض أسعار الفائدة، ومن المرجح أن تمنعه المحاكم من إقالة محافظي «الاحتياطي الفيدرالي» متى شاء، لكنه سيتمكن من ترشيح رئيس جديد لـ«الفيدرالي» متعاون معه في عام 2026.

وفي غضون ذلك، فإن سياسات الرئيس الأخرى، مثل نقل المهاجرين غير الشرعيين إلى السلفادور دون جلسة استماع ومحاكمة، أو مضايقة مكاتب المحاماة التي لا تُرضيه، تحمل المستثمرين على الاعتقاد بأن حقوق الدائنين الأجانب قد تتأثر، ولن تجد ضماناً من الحكومة.

كل هذا يخلق مزيداً من المخاطرة على الأصول الأميركية، والأمر المدهش هو أنه من السهل أيضاً أن نتصور أزمة شاملة في سوق السندات، حيث يمتلك الأجانب 8.5 تريليونات دولار من الديون الحكومية، أي أقل بقليل من ثلث الإجمالي، وأكثر من نصفها يملكها مستثمرون من القطاع الخاص، الذين لا يمكن إغراؤهم بالدبلوماسية أو تهديدهم بالرسوم الجمركية، ويجب على أميركا إعادة تمويل ديون بقيمة تسعة تريليونات دولار خلال العام المقبل.

تأثير سريع

وإذا ضعف الطلب على سندات الخزانة، فسينتقل التأثير بسرعة إلى الميزانية، التي تتأثر بأسعار الفائدة، نظراً إلى ارتفاع الديون وقصر آجال الاستحقاق، إذاً ماذا سيفعل الكونغرس حينها؟

عندما انهارت الأسواق خلال الأزمة المالية العالمية والجائحة، تصرّف الكونغرس بحزم، غير أن تلك الأزمات تطلبت منه الإنفاق، لا فرض تخفيضات، وهذه المرة، سيحتاج إلى تقليص الاستحقاقات ورفع الضرائب بسرعة، ويكفي النظر في تركيبة الكونغرس والبيت الأبيض لنرى أن الأسواق قد تضطر إلى فرض الكثير من الضغوط قبل أن تتفق الحكومة على ما يجب فعله.

ومع تردد أميركا، قد تمتد الصدمة من سندات الخزانة إلى بقية النظام المالي، ما يؤدي إلى حالات تخلف عن السداد، وانهيارات حادة لصناديق التحوّط، وهذا هو السلوك المتوقع في كل سوق ناشئة.

الإقراض والتمويل

من جانبه، سيواجه «الاحتياطي الفيدرالي» معضلة مؤلمة، وقد يشتري الأصول لتثبيت الوضع، لكنه لن يرغب في الظهور بمظهر من يُسيّل ديون حكومة غير جديرة بالائتمان، وهي خطوة محفوفة بالمخاطر بشكل خاص في ظل ارتفاع التضخم.

والسؤال الذي يفرض نفسه في هذه الحالة: هل يمكنه تحقيق التوازن بين الإقراض الطارئ والتمويل النقدي؟ ولو لم يكن ذلك ينقذ رئاسة ترامب، فهل سيوافق على إقراض الدولارات للبنوك المركزية الأجنبية التي تفتقر إلى السيولة، كما يحدث عادةً في الأزمات؟

قيمة العملة تعتمد على الحكومة التي تدعمها، فكلما طال فشل النظام السياسي الأميركي في التعامل مع عجزه أو لجأ إلى قواعد فوضوية أو تمييزية، زاد احتمال حدوث ثورة تدفع بالنظام المالي العالمي إلى المجهول.

وأينما استقرت الأمور، فسيكون تراجع دور الدولار كارثة لأميركا، صحيح أن بعض المصدرين سيستفيدون من ضعف العملة، لكن هيمنة الدولار تُقلل من كلفة رأس المال للجميع، من مشتري المنازل للمرة الأولى إلى الشركات الكبرى. عن «الإيكونوميست»

هل يكمن البديل في اليورو؟

سيعاني العالم لأن الدولار لا مثيل له، وفي حقيقة الأمر يدعم اليورو اقتصادٌ كبيرٌ، لكن منطقة اليورو لا تُنتج ما يكفي من الأصول الآمنة. ونجد أن سويسرا آمنة لكنها صغيرة، بينما اليابان كبيرة، لكن لديها ديونها الضخمة. ويفتقر الذهب والعملات الرقمية إلى الدعم الحكومي. ومع تجربة المستثمرين لأصول مختلفة، قد يؤدي البحث عن الأمان إلى تقلبات مزعزعة للاستقرار الاقتصادي.

نظام الدولار ليس مثالياً، لكنه يوفر الأرضية المتينة التي يستقر عليها الاقتصاد العالمي اليوم، وعندما يشكك المستثمرون في الجدارة الائتمانية لأميركا، تُصبح تلك الأسس مُعرّضةً لخطر التصدع.

. سياسات ترامب، مثل ترحيل المهاجرين من دون محاكمة، تحمل المستثمرين على الاعتقاد بأن حقوق الدائنين الأجانب قد تتأثر، ولن تجد ضماناً من الحكومة.