في عمق “ملحمة المطاريد”: كيف تكشف اللغة والشخصيات والحبكة عن روائعها الخفية؟ | تحليل محمد عبد العزيز سليم
لقد أثرت رواية “ملحمة المطاريد” للكاتب عمار علي حسن، الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية، إعجاب القراء بشدة، حيث غاصت بهم في عوالمها منذ اللحظة الأولى. الرواية تُعد تحفة فنية تتجلى فيها جماليات الإبداع الروائي، مقدمةً صورة حية وصادقة للإنسان المصري على ضفاف النيل وصراعاته الدائمة مع المكان والإنسان ذاته، وذلك من خلال قصة عائلتين كبيرتين تتنافسان على النفوذ.
رواية “ملحمة المطاريد”: رحلة آسرة في عمق الشخصية المصرية
منذ الوهلة الأولى، تستحوذ “ملحمة المطاريد” على اهتمام القارئ، فبرغم مشاغل الحياة اليومية، يجد المرء نفسه يختلس الوقت ليغوص في صفحاتها. هذه الرواية الفذة لا تكتفي بالسرد، بل تتغلغل في أعماق النفس البشرية وتكشف صراعاتها الداخلية والخارجية. تتناول القصة بشكل محوري العلاقة المعقدة بين الإنسان والأرض والبيئة، مسلطة الضوء على الجدل الأبدي بين الفرد ومحيطه، وبين الأفراد بعضهم ببعض. ينبع هذا الصراع من تنافس عائلتين كبيرتين تسعيان للهيمنة ومد جذورهما في المكان والزمان، مما يؤدي إلى تصادمات مستمرة تشكل محور الأحداث.
اللغة والسرد: إبداع “عمار علي حسن” في بناء عالمه الروائي
تزخر الرواية بعناصر إبداعية عديدة، تبرزها لغتها الفصيحة والمشحونة بالجمال اللغوي في عنصري السرد والحوار. جاءت لغة “ملحمة المطاريد” شاعرة، مليئة بالصور والمجازات والعبارات الموحية التي تعكس بيئة الرواية بحميمية رائعة. ينمو الحوار فيها بقدرة مدهشة ومنطقية، محافظًا على الخصوصية الفكرية والثقافية والاجتماعية لكل شخصية. فنرى لغة الصوفي المليئة بالإيحاء والرمز، ولغة الوجيه صاحب النفوذ، ولغة الحكمة والعقل الرصين، ولغة الشر الذي لا يتورع عن تلبية أهوائه. هذه المستويات اللغوية المتنوعة تمنح شخصيات الرواية حيوية فائقة، فتبدو كأنها من لحم ودم لا مجرد شخصيات ورقية.
أما السرد، فيأتي محللاً ومستبطنًا لأغوار النفس ودقائق الشعور، كاشفًا لنوازعها ورغباتها. كما يصور البيئة الزمانية والمكانية بعبارات تحمل الكثير من الإيحاء والكثافة الدلالية، مشحونة بوهج العاطفة وخفق المشاعر، مستمدة مفرداتها وأساليبها من بيئة الرواية نفسها. لقد برع الكاتب في بث الحياة والتدفق في البيئة التي هي مسرح للأحداث، مما يجعل القارئ يشعر وكأنها شخصية فاعلة ومؤثرة في مجريات الأحداث، وينسى أنه يقرأ رواية مكتوبة، بل يشاهد حركة أحداث حقيقية.
الحبكة والعقدة: تشابك الأحداث ومصائر الشخصيات في “المطاريد”
تتعدد العقد والحبكات في “ملحمة المطاريد”، وهو أمر طبيعي بالنظر إلى امتداد الرواية في الزمان والمكان وتناولها لأجيال متعددة. تتطور الحبكة والعقدة بصورة طبيعية نتيجة لنمو الحدث وتشابكه، لتصل إلى قمة التأزم، ثم تنفك هذه العقد بفنية عالية وخبرة بنواميس الحياة وتقلباتها. تغذي لغة الرواية شغف المتلقي، توقظ كل مشاعره وحواسه وأفكاره، ليرقب إلى أين تؤول الأحداث. في النهاية، يجد القارئ نفسه وقد وجد في “ملحمة المطاريد” نافذة يطل منها على الحياة بكل تقلباتها، ويرى مصائر الأقدار والضعف الإنساني أمام القدر وعواصف الحياة، كما يرى الإنسان في جهاده المتصل يقاوم صروف الدهر العاتية، فينجح مرة ويخفق أخرى، وهذا هو ما يميز الكاتب الكبير عمار علي حسن.
أهمية رواية “ملحمة المطاريد”: توثيق تاريخي وتجديد أدبي
تكتسب رواية “ملحمة المطاريد” أهمية كبيرة لعدة أسباب جوهرية:
- توثق تاريخ الإنسان المصري ومسيرته الحضارية على ضفاف النيل عبر حقبة زمنية طويلة تناهز الأربعمائة عام، مما يجعلها بمثابة وثيقة تاريخية مسطورة.
- تبث في اللغة روح التجديد والإبداع، مما يمنحها طاقة تجعلها قادرة على مواجهة المتغيرات والهجمات التي تستهدف حيويتها وروحها الوثابة.
- تعرض صورة حية للصراع الدائم بين الخير والشر، مؤكدة على حقيقة جلية بأن الحق لا بد له من قوة تحمي وجوده وتمنعه من الوقوع في براثن الشر، وتحذر من طبيعة الشر الكامنة التي تنتظر الفرصة للانقضاض على الخير.