وسط موجة الاتهامات المتبادلة داخل ريال مدريد، والكلمات “القاسية” التي قيلت في غرفة ملابس ملعب “سانتياغو برنابيو”، جاءت تصريحات تيبو كورتوا لتضيف بعداً مفاجئاً للنقاش، إذ كان حارس المرمى البلجيكي من القلائل الذين قدموا أداءً يليق بالمستوى خلال مباراتي الخروج أمام أرسنال الإنجليزي، وامتلك ما يكفي من الثقل ليتحدث بثقة، لكن أحداً لم يكن يتوقع ما قاله إذ قال “أرسلنا عدداً من الكرات العرضية، لكننا افتقدنا هذا الموسم وجود لاعب مثل خوسيلو، مهاجم تقليدي”.
وهكذا في “السنة الأولى” لكيليان مبابي – كما تسميها الصحافة المحلية، في إشارة إلى أحد أغلى اللاعبين في تاريخ كرة القدم – كان ما يفتقده ريال مدريد فعلياً هو مهاجم بديل يبلغ من العمر 35 سنة تم التعاقد معه كحل طارئ.
الأمر بالتأكيد أعمق من مجرد غياب مهاجم تقليدي، وكورتوا نفسه يدرك ذلك جيداً، إذ قال أيضاً “عليك أن تكون ناقداً لذاتك وتنظر إلى كل شيء.
وأضاف حارس المرمى “أشعر أننا نلعب كفريق، لكن يجب أن نقدم لعباً جماعياً أكثر، لا أن نعتمد فقط على الفرديات”.
أو كما اتفق الجميع في مدريد، كان هناك شيء واحد مفقود من كل أجواء الريمونتادا (العودة في النتيجة)، فوسط كل الحديث عن العودة التاريخية، الشيء الوحيد الذي غاب فعلاً كان كرة القدم نفسها.
اضطر ريال مدريد إلى الاكتفاء بالكرات العرضية واللعب النمطي على الأطراف، لأنه ببساطة لم يكن يمتلك اللاعبين القادرين على تقديم ما هو أكثر.
لقد غاب الإبداع وانعدم الخيال ولم يكن هناك اتجاه واضح، ولهذا تمكن أرسنال من امتصاص كل شيء بسهولة، لأن ريال مدريد لم يستطع بناء أي شيء حقيقي.
ولن تكون هذه المرة الأولى التي يضيع فيها مشروع كرة القدم في النادي وسط عناصر أخرى خلال عهد فلورنتينو بيريز، فقد حاول كثيرون، على مدى أعوام، إقناعه بأهمية التوازن الدقيق الذي تتطلبه كيمياء الفريق، لكنه لم يفهم الأمر أبداً كما يجب، إذ لطالما وُصف فهمه لكرة القدم بأنه “سطحي”.
وهكذا كانت الحال في الصيف الماضي، التي شكّلت نموذجاً كلاسيكياً لشخص عاجز عن التحرر من طبيعته، ولتكرار التاريخ نفسه من جديد.
خلال الأعوام الخمسة الماضية، منح بيريز صلاحيات واسعة لكبير الكشافين في النادي جوني كالافات الذي استثمر موهبته الواضحة في بناء فريق متكامل.
وضع البرازيلي خطة مدروسة تقوم على اختيار دقيق وصبور للاعبين المناسبين تماماً، وغالباً ما كانت هذه الخطة تستند إلى استقطاب المواهب الشابة، وقد أدت هذه الإستراتيجية إلى ولادة جديدة للنادي ونهضة لافتة، خصوصاً أنها جاءت كرد فعل يائس بعدما بات واضحاً أن ريال مدريد لم يعد قادراً على مجاراة المنافسة بالأسلوب القديم نفسه.
ثم جاء إدخال لاعب لا يحتاج إليه الفريق لهذه المنظومة، وهو كيليان مبابي.
وقد كتبت على هذه الصفحات في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 أن النجم الفرنسي يمثل نسخة حديثة من إصرار بيريز على التعاقد مع ديفيد بيكهام عام 2003، وهي صفقة أخرى لم تكن دوافعها كروية بحتة.
لقد شعر بيريز بالثقة الزائدة بعد عودة الفريق إلى التتويج بدوري أبطال أوروبا، فعاد إلى طبعه القديم، إلى ما يعرفه ويهواه: النجوم.
الكلمة التي تعبر عن ذلك بالإسبانية هي “ilusión” أي الوهم، والتي تشير إلى الحماسة الناتجة من البهرجة، لكن بيريز لم يفهم يوماً أن الوهم الحقيقي في كرة القدم ينبع من الأداء، لا من الأسماء.
ولهذا كانت استثمارات كالافات في المواهب الشابة منطقية وفعالة، حتى لو بدت متناقضة مع الهوية النخبوية لريال مدريد، لقد تذكر بيريز ما كان عليه، ونسي ما أصبح عليه الفريق.
ثمة جانب أقرب إلى “الدرس الأخلاقي” في هذه القصة.
هذا ليس مجرد تحليل بأثر رجعي، بل كانت هذه التحذيرات تقال داخل أروقة النادي، من أشخاص على مقربة من قمة الهرم الإداري، وحتى عشية نهائي دوري أبطال أوروبا الذي فاز فيه ريال مدريد على بوروسيا دورتموند، أصر كثيرون داخل النادي على أنه لم يكن هناك مكان واضح لمبابي في الفريق، لكن هذا الرأي كان دائماً ما يقابل بجملة متكررة هي “رئيسنا يستطيع التعاقد مع هذا النجم، لذا فهو يريده”.
واليوم وبعد موسم مبابي الأول، انتقل ريال مدريد من موقع بطل أوروبا إلى الخروج من ربع النهائي، بينما لم يكمل النجم الفرنسي المباراة التي أقصي فيها فريقه.
وهناك منطق بسيط في كل ذلك: كان لدى ريال مدريد بالفعل أحد أفضل المهاجمين في الجبهة اليسرى في العالم، وهو فينيسيوس جونيور، لكنه كان في حاجة ماسة إلى تعويض أحد أفضل لاعبي خط الوسط في العالم وهو توني كروس.
وكان كالافات قد شغل نفسه طويلاً بهذا الملف، وكرس الكثير من التفكير لتحديد المواهب الشابة المناسبة لخلافة أساطير النادي مثل بنزيما وكروس.
لكن هذا التخطيط ألقي به من النافذة، بعدما تم التعاقد مع لاعب آخر يشغل الجبهة اليسرى هو مبابي، بينما ترك المركز المحوري في وسط الملعب بلا بديل حقيقي، والنتيجة كانت ذلك الأداء العبثي أول من أمس الأربعاء، إذ اكتفى ريال مدريد بمحاولة تمرير الكرة إلى لاعبيه السريعين، دون امتلاك أية أدوات تكتيكية حقيقية لتوجيههم واستغلال قدراتهم على النحو الأمثل.
وأدت الحاجة إلى استيعاب مبابي في التشكيلة إلى نقل عدد من اللاعبين من مراكزهم المثلى، مما جعل الفريق يبدو مفككاً وعشوائياً، وعلى رغم موهبة المهاجم الفرنسي الواضحة، فإن وجوده أثر سلباً في أفضل لاعبي الفريق، بدلاً من أن يحسن أداءهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إنه تكرار لما حدث حين استبدل النادي كلود ماكيليلي بديفيد بيكهام، في خطوة شهيرة في تاريخ ريال مدريد تمثل نوعاً من التخريب الذاتي لخطة اللعب، وهو ما كان بإمكان أي شخص توقعه.
من المغري هنا توجيه اللوم الكامل إلى مبابي، وبخاصة بعد الفضيحة الأخيرة التي افتعلها فريقه القانوني حين عقد مؤتمراً صحافياً في شأن نزاعه مع باريس سان جيرمان.
لكن السخرية الكبرى، أن النادي الباريسي المملوك لقطر بدا وكأنه يستمتع بمستوى أعلى من التألق بعد رحيله، وقد يحقق دوري أبطال أوروبا في اللحظة التي يخسره فيها ريال مدريد، بالتزامن مع انتقال مبابي إلى صفوفه.
وستكون هذه مفارقة مشابهة ولم تحدث منذ غادر زلاتان إبراهيموفيتش إنتر ميلان بعد موسم (2008 – 2009) إلى برشلونة، ليتوج فريقه السابق بدوري الأبطال في الموسم نفسه (2009 – 2010) الذي غاب فيه عنه.
لكن ما يحدث مع ريال مدريد في الواقع أعمق بكثير من مجرد صفقة مبابي أو الفشل في مباراة واحدة، فمع الغياب الواضح لتوني كروس وتقدم لوكا مودريتش في العمر، تظهر صورة أكبر تحتاج إلى التأمل.
لقد بدأ ريال مدريد حقبة تتويجاته الأوروبية الجديدة منذ التعاقد مع مودريتش في موسم (2013 – 2014)، وقد تتوقف تلك المسيرة الآن مع رحيله، فلم يعد هناك من يفرض خطة لعب واضحة أو أسلوباً جماعياً متقناً، وإذا تولى مدرب ذو خلفية تكتيكية مثل تشابي ألونسو قيادة الفريق، فقد تكون مهمته الأكبر هي مقاومة ثقافة النادي نفسها.
وسط كل هذا، أثير نقاش واسع حول قلة حركة النجوم في أرض الملعب، وتم تسليط الضوء على الفارق البدني الكبير بين أرسنال وريال مدريد، إذ تفوق الفريق الإنجليزي في الجري خلال المباراتين، على رغم اختلاف النهجين تماماً.
ففي مباراة الذهاب، استحوذ أرسنال على الكرة وركض لاعبوه أكثر بـ12.7 كيلومتر، أما في مباراة الإياب أول من أمس، فقد تنازلوا عن الاستحواذ لكنهم ركضوا أكثر بـ8.5 كيلومتر.
وهذا ليس جديداً ففي نوفمبر الماضي، كان أحد اللاعبين البارزين يشتكي أمام أصدقائه – وأي شخص يود الاستماع – من أن خط الهجوم لا يركض بما يكفي.
وفي دوري أبطال أوروبا هذا الموسم، كان مبابي وفينيسيوس هما أقل من قطع مسافات بين جميع المهاجمين: مبابي بـ4.97 كيلومتر لكل 90 دقيقة، وفينيسيوس بـ5.47 كيلومتر.
ولا تكون مثل هذه الإحصاءات مشكلة في حال وجود لاعب واحد، إذ يمكن تعويضه، أما لاعبان في فريق واحد، فهي كارثة أمام أنظمة الضغط الحديثة.
وجاءت لقطة رمزية على ذلك في مباراة أول من أمس، حين وقف جود بيلينغهام يتفرج على مارتن أوديغارد وهو يتجاوزه بسهولة.
وعلى رغم تأكيد المقربين من الفريق أن القوة الذهنية لا تزال جيدة، فإن الأجواء توحي بوجود خلافات وكتمان للضغائن، ومرة أخرى نحن أمام مسألة الكيمياء الجماعية الدقيقة.
والآن ينتظر أن يلقى بترينت ألكسندر أرنولد داخل هذا الخليط، وربما ليأخذ مكان أسطورة النادي الصدامي داني كارفاخال، وقد تلجأ الإدارة إلى حلول وسط تقضي بنقل أرنولد إلى وسط الملعب، وهو خيار قد يبدو منطقياً إلى حد ما، نظراً إلى قدراته على التمرير الخلّاق التي افتقدها الفريق أمام أرسنال.
لكن يظل هناك فرق واضح بين القدرة على إرسال تمريرات مبهرة، وامتلاك القدرة على قيادة المباراة فعلياً.
وفي النهاية، تعود كل الأمور إلى كرة القدم، دائماً ما تعود.
وريال مدريد، إن كان ثمة نادٍ يفترض أن يدرك ذلك أكثر من أي نادٍ آخر، فهو هو.
لكن بيريز، كما يبدو لم يُدرك ذلك بعد.